كان تيسير علوني على موعد جديد مع المستشفى لإجراء قسطرة لقلبه المتعب، ذلك الذي ما كان إلا نابضاً بالحب والخير والانتماء لهذه الأمة، لكن القاضي المهووس بحكاية الإرهاب الإسلامي (بالتسار غارثون) كان له رأي آخر، وهو الذي أصابته الخيبة حين قرر المدعى العام إخراج تيسير من السجن قبل شهور بعد اعتقال دام شهرين. هاتفته قبل العيد بيومين فكان في حالة من القهر لا مثيل لها بسبب غياب التغطية الإخبارية عن معركة الفلوجة، هو الذي عشق اقتحام الأهوال من أجل نقل الوجه الآخر للصورة كي لا يظل المشاهد أسيراً لرؤية الغزاة الذين يدعون الموضوعية فيما هم أسوأ من أمتهن التزوير على وجه هذه الأرض. كان يتميز غضباً وقهراً، وكان محقاً، فقد مرت الأيام الثلاثة الأولى للعمليات الأمريكية وسط غياب فاضح لأنباء المعركة، اللهم إلا ما تتفضل به آلة الإعلام الحربي الأمريكي من مشاهد ومعلومات، لم تكن ترى غير سهولة تقدم الدبابات الأمريكية وسط أحياء الفلوجة. قلت له إنني كنت بصدد كتابة مقال بعنوان "معركة ينقصها تيسير علوني"، لكنني أخشى أن يضيفه القاضي العظيم إلى ملف الاتهامات الموجهة إليك، تماماً كما هو حال كتاب "الأربعين نووية"، وحكاية "الشباب" التي كانت تتردد في كلامك على الهاتف، والتي ظنها القاضي الذكي تنظيماً سرياً اسمه "الشباب"!! مرة أخرى يعود تيسير علوني إلى السجن، فيما ندعو الله أن لا يخذله قلبه هذه المرة، سيما وأن الشبكات الخمس المزروعة في شرايينه كانت في حاجة إلى إعادة ترميم كما يبدو بعد مضي أكثر من عامين على زراعتها. هذه المرة لم يكن لدى القاضي سوى حكاية الخوف من هرب علوني خارج إسبانيا، لكأنه لص أو مهرب مخدرات، وليس صحفياً تعرف الدنيا وجهه وملامحه المميزة. فيما يبدو أن (غارثون) قد اكتشف حكاية جديدة هي انتماء تيسير إلى "الإخوان المسلمين"، من دون أن يدري أن الآلاف من الشبان السوريين قد حصلوا على اللجوء السياسي في أوروبا، ومنها إسبانيا، لهذا السبب في ظل ذلك القانون الذي كان معتمداً في سوريا بشأن أعضاء الجماعة إثر أحداث الثمانينات الشهيرة، مع أن تيسير لم يدخل إسبانيا أصلاً بهذه الطريقة كما تعرف دوائر الهجرة فيها. كل ذلك لا يعدو أن يكون نوعاً من الهراء الذي يبرر به القاضي (غارثون) قراره الجديد، فيما بدا الموقف سيئاً بكل المقاييس في ظل الخطاب الذي حملته الحكومة الإسبانية الاشتراكية الجديدة، والذي يختلف إلى حد كبير عن خطاب حكومة أثنار المنحاز، بل التابع للحكومة الأمريكية. هذا البعد هو الذي يدفعنا إلى التفاؤل بأن رحلة تيسير في السجن هذه المرة لن تطول كما كان الحال في المرة الماضية، سيما وأن القاضي لا يملك في واقع الحال ما يبرر به القرار، لسبب بسيط هو أن تيسير لن يهرب من إسبانيا، لأنه لم يكن مجرماً بل ممثلاً للحقيقة التي أريد لها أن تضيع تحت أقدام الجندي الأمريكي الذي يحمل الموت والدمار، فيما يحمل في جعبته الكثير من المنشورات والتصريحات التي تبشر بالحرية والديمقراطية والحضارة، والتي كان على تيسير لكي يكون صحفياً ناجحاً يتوخى المهنية أن يقدم لمشاهديه مضامين تلك الأوراق والتصريحات، فيما يتجاهل تماماً ما تحصده قنابل الطائرات وقذائف الدبابات ورصاص الجنود من أرواح بريئة!! تيسير علوني لم يكن ليفعل ذلك، ليس لأن روحه تأباه وترفضه، بل لأن قلبه الرائع لا يحتمله أيضاً، فكان لسان حاله قول ربه على لسان سيدنا يوسف عليه السلام: "رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه". ياسر الزعاترة - كاتب فلسطيني