أعجبني موقف السيد أحمد التوفيق وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية منذ أيام قليلة عندما قال في البرلمان: «إن الوزارة تعتزم رفع اقتراح إلى اللجنة الملكية المكلفة بالحج يتضمن اعتماد نظام للقرعة في تسجيل الحجاج لتفادي التفاوت بين العرض والطلب». وأوضح «أن هذا الإجراء يحتاج لرأي المجلس العلمي الأعلى من خلال فتوى عندما تعرض عليه المسألة». قال ذلك بعدما ذكر أن 14 عمالة بالمغرب اعتمدت نظام القرعة لإيجاد توازن على مستوى تسجيل الحجاج، وأن الوزارة استحسنت هذا النظام وستسعى إلى اعتماده بعد صدور الفتوى المجيزة لذلك.فرغم أن الأمر يبدو بسيطا وفي جزئية قد لا تحتاج في نظر البعض إلى فتوى، مادام تحديد عدد الحجاج لا يد للمغرب فيه،وأنه موضوع من طرف الدولة المضيفة لضرورات واقعية معتبرة، كما أن القرعة تظهر أقرب إلى العدل والإنصاف. إلا أن طلب الفتوى في حد ذاته من جهة رسمية له دلالات عميقة. فهو من جهة يعيد للعلم الشرعي اعتباره، وللعلماء مكانتهم، ولهيئاتهم ومؤسساتهم منزلتها وموقعها ضمن مؤسسات الدولة والمجتمع، وفيه إشعار واضح أن طلب الفتوى لم يعد شأنا فرديا يهتم بشؤون وقضايا الأفراد فقط، أو خاصا بما يحيله أمير المؤمنين على المجلس العلمي الأعلى، بل هو مفتوح في وجه مختلف الوزارات والمؤسسات، والسادة الوزراء والولاة والعمال والموظفين السامين وكبار رجالات الدولة للاستفسار وطلب الفتوى فيما لا يتبين لهم فيه حكم الشرع وتختلط فيه المصالح والمفاسد.. ومن جهة أخرى يضاعف من مسؤولية العلماء، ويجعلهم أمام تحديات ضخمة كالجبال، فالواقع تشعبت قضاياه بشكل لم يسبق له مثيل، والفجور اتسع بالناس وتولدت عنه إشكالات معقدة، والاجتهاد توقف أو كاد منذ زمن ليس باليسير، وضعفت مواكبة العلماء لما يجري حولهم، وليس يبعد أن تنطلي عليهم الحيل وأن ينالهم الغبن والغرر في سوق دهاقنة السياسة والاقتصاد ودروب الحياة المتشعبة، إلا من رحم الله وأتاه رسوخا في العلم والتقوى والشجاعة. قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه باب آداب الفتوى والمفتي والمستفتي: «اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر، كبير الموقع، كثير الفضل، لأن المفتي وارث الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- وقائم بفرض الكفاية ولكنه معرض للخطأ؛ ولهذا قالوا: المفتي موقع عن الله تعالى. وروينا عن ابن المُنكدر قال: العالم بين الله تعالى وخلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم». ثم أورد النووي قولة مالك رحمه الله: (من أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف خلاصه ثم يجيب). ولا شك أن الإقبال على الفتوى من قبل من هم في المواقع الرسمية، فيه مؤشر قوي على تحرك الصحوة المباركة نحو مواقع متقدمة، تتجاوز الأفراد إلى المؤسسات، وعودة حميدة إلى رحاب التدين والرغبة في الاحتماء بدفء ردائه، سواء كان ذلك بصدق كما هو مفروض أو بغيره بحكم منطق الأشياء وضرورتها. المهم هو فتح الباب للبرهنة على صدق الشعارات المرفوعة والبنود المسطرة بخصوص موقع الدين في الدولة والمجتمع. وكما لا يقبل من الفرد المسلم أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه. كذلك مؤسسات المسلمين ووزاراتهم وولاتهم وعمالهم وغيرهم من رجالات الدولة لا يستنكفون عن معرفة حكم الشريعة في سياستهم وتدبيرهم وقراراتهم وأعمالهم، وفاء لدينهم والتزاما بدستورهم الذي يجعل من الإسلام دين الدولة الرسمي.. فهل سيقدم المخلصون من هؤلاء على هذه الخطوة العظيمة،حتى يعرفوا حكم الله فيما هم فيه؟ ثم هم بعد ذلك في العمل والتطبيق تشملهم قاعدة الشرع: لا تكليف إلا بالمستطاع. وهل ستتقاطر أسئلة مختلف القطاعات على المجلس العلمي الأعلى: من وزارة المالية والعدل والاتصال والثقافة.. والمؤسسات البنكية والرياضية.. والبرلمان والشركات.. والولايات والعمالات..؟ وهل يهيئ العلماء أنفسهم لمثل هذا الدور العظيم، ويعطى لهم ما يكفي من الإمكانات البشرية والمادية، وتهيء لهم ظروف التكوين المستمر وبيوت الخبرة في مختلف المجالات حتى يضعوا الفتوى المناسبة في مكانها المناسب، ولا يغردوا خارج السرب؟ إنها آمال قد يراها البعض بعيدة،ولكنها بعد توفيق الله وفي ظل الصحوة الزاحفة تبدو بالعمل والجد والحكمة والكلمة الطيبة قريبة،وستكون ثمارها يانعة مباركة، ذلك أن رب العزة مثل الكلمة الطيبة(كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا).