ودعنا يوم الأحد 16 أكتوبر 2016 في الساعة الثالثة صباحا آخر رجالات الكفاح الوطني الذي ارتبط إسمه بالأمير المجاهد محمد ابن عبد الكريم الخطابي، المقاوم الكبير الهاشمي الطود. ذلك الرجل الاستثنائي الذي وصف بالقنبلة الموقوتة تحت خطوات المستعمر الفرنسي "سي الهاشمي" الذي اعتبر دائما مفخرة المغرب وتاريخا يمشي على قدمين. ازداد الهاشمي الطود سنة 1930 في مدينة القصر الكبير ، شمال المغرب . وهناك التقط أنفاسه الأولى . وقد ظل وفيا للأرض ، للوطن وللقضية فعاش ومات وطنيا . لم يكن الرجل يؤمن بشيء قدر إيمانه بأن المستعمر الذي دخل إلى المغرب بالقوة لن يخرج إلا بالقوة ، وليس بمفاوضات مشروطة يملي فيها المنتصر ما يريد . ظل العقيد الهاشمي الطود يحمل في قلبه الكبير حلم المغرب ووحدته وهو يردد : "أنا رجل أؤمن بالبندقية والرصاص" . صادف ميلاده صدور الظهير الاستعماري التمييزي الذي وصف ب "الظهير البربري" . وكان ذلك الحدث لحظة فاصلة في تاريخ المغرب المعاصر، وخصوصا ميلاد الحركة الوطنية المغربية التي خرجت من رحم تلك اللحظة . درس وتعلم في المغرب القرآن واللغة ، وخطا خطواته الأولى على طريق التعلق بالوطن والانتماء إلى أفقه الواسع . ثم انتقل بعد ذلك لمتابعة دراسته في المشرق ، تحديدا في مصر التي كان يعتبرها رحمه الله منهل العلم ونبع الفكر والأدب والثقافة . وهناك تخصص تخصصا عسكريا ليتخرج لاحقا من المدرسة العسكرية في بغداد عام 1951 بدرجة ملازم في سلاح المدرعات . لم يكن العقيد الهاشمي الطود رمزا من رموز الكفاح العربي ضد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين فقط ، بل كان واحدا من أبرز الدعاة إلى الكفاح الوحدوي المسلح ضد الاستعمار في الشمال الإفريقي . كان الهاشمي يؤمن بالحرية والمبادئ الصادقة ويفتدي المستضعفين بروحه التي سخرها لخدمة القضايا النبيلة والعادلة كما شهد بذلك رفاق دربه واللذين عايشوه . فكان في طليعة الملبين اللذين استجابوا لنداء الجهاد العربي في فلسطين نونبر 1947 . ويذكر اللذين عرفوه رحلته المثيرة مشيا على القدمين إلى مصر . وهي رحلة ما زال يتحدث عنها عدد من أصدقائه ضمن الغرائب التي ظلت توثر عنه ، إذ دامت هذه الرحلة التي انطلقت من المغرب بغية اللحاق بصديقه عبد الكريم الخطابي أنذاك . ثلاثة أشهر تقريبا . ومعروف أن العقيد الهاشمي الطود لم يكن يحكي مثل هذه القصص القريبة من عالم الخيال والأساطير بعنجهة أوتكبر أو ادعاء . ورغم أنه عاشها مثل بطل أسطوري ، ظل دائما بسيطا متواضعا قلما يشرك فيها الآخرين كما يفعل عادة المحاربون القدامى . كان يجلس في المقهى ويخرج لقضاء أغراضه اليومية بنفسه حتى يكاد ينسى الآخرون أن الرجل الذي يجالسونه بأريحيته البالغة المعهودة هو الرجل الجسور ذاته الذي عاش سنوات السجن والنفي من أجل كلمة الحق . كان صامدا صمودا يكاد يكون خرافيا في تاريخه وفي ذاكرته وكأنه اقتبس من اسمه العائلي بعض صفاته ، طودا راسخا في الوطنية والنبل لا تهزه الرياح . بابتسامة لافتة مرسومة على محياه الوضيء، كان الهاشمي الطود يستقبل الشدائد كما كان يثور ويتألم عندما يحكي أو يتذكر حدثا ما أو وجها يعود إليه من بعيد . وتدريجيا مع سيرورة العمر والزمن ، أصبح الرجل عاطفيا ممتلئا بفيض وجداني جعله هشا أمام هول الذاكرة التي عبرها في لحظات عزلته الأخيرة مع نفسه ومع ذاكرته وتاريخه كان صوت أم كلثوم قد غدى جاره اليومي يسد الفجوات ويملأ الفراغ من حوله، ويجعله مشدودا بخيط مرهف بالحياة ، حتى لا يخاصم أحدا أو يخاصم نفسه . هكذا كان الراحل الهاشمي الطود بسيطا عميقا وعظيما . ومن فرط صمته وتواضعه ، عاش ومات دون أن يعرفه الكثيرون . وبدءا من الآن يجب على المغاربة اللذين يوصفون بكونهم "مرضى بماضيهم" ، أن يعيدوا اكتشاف تاريخهم بكل وجوهه المضيئة ، و"سي الهاشمي" بكل تأكيد كان واحدا منها .