قبل أن تسود الرشوة في المعاملات بين المواطنين، استطاعت هذه الآفة أن تسكن العقول وتصبح أمرا مهيمنا في الواقع من أجل قضاء الحوائج والأغراض. والرشوة تكون بالمال كما تكون بالبضائع وصناديق الفواكه وبدوناتالزيت البلدية وأشياء أخرى.. وهي لا تنحصر في الإدارات العمومية ومؤسسات السياقة والمباريات والتسريع بالحصول على وثائق إدارية، بل تتعداها إلى غرف المستعجلات والحصول على الوظائف..وتكون موادا عينية في المؤسسات شبه العمومية والخاصة بين الموظف ورئيسه، أو الموظف والمتنفذ في المؤسسة حتى لا يلحق بالموظف الصغير وشاية تعصف برزقه وتلقيه في الشارع في ظل كساد سوق الشغل. أما النفوذ المعنوي فهو يتوقف على مكانة الشخص المادية والسلطوية، فإن تم الإرسال من السيد الفلاني فالحاجة مقضية، لأن المصالح تتبادل عاجلا أم آجلا، لأن الساعي لقضاء المآرب يعد من أقرباء فلانالسيد، المتنفذ في الوزراة أو الإدارة الفلانية. المواطن المحتاج لا يهمه المؤشر الدولي لانتشار الرشوة، وعلاقة ذلك بالفساد وتأخير التنمية بالبلاد، بل همه أن يقضي حاجته الإدارية بأقل التكاليف المادية، لذا فهو يفضل تقديم عشرة أو عشرين درهما للموظف لتسريع الإنجاز أو إسعاف مريضه أمام غرفة المستعجلات، فالوقت أثمن من المال.. فصار طبيعيا التعايش الضمني مع تلازم قضاء الحاجة بالرشوة أو لقهيوة أو الهدية، مسميات عدة لآفة لم يستطع القانون الحد منهارغم كثرة اللغط، وصار الأمر غير الطبيعي هو أن تصر على قضاء حاجتك وفق التسلسل الإداري المعتاد لعموم المغاربة..واشتهر بين الناس مثل: كم تعطيني من فلوس لأحد من انتشار الرشوة. كما أن بعضنا اعتاد أن يقضي أغراضه بتقديم الرشوة وإن لم تطلب منه، فهو يتصدق على الحرام بماله الحلال، خاصة وأنه سمع في ثنايا حديث الناس أن فلانا تسلم أوراق سيارته عقب المخالفة بعد تقديمه لقهيوة، كما صارت بعض الطرق الرابطة بين بعض المناطق المغربية لكثرة الجبايات طرقا سيارة رغم أنها تعد في تصنيف الطرق بالثلاثية أو الثنائية. الكثيرون يتعللون بضعف الراتب الشهري وقلة ذات اليد لإيجاد مسوغ نفسي لأخذ الرشوة أو دفعها، فاستيفاء الحاجيات العائلية يستدعي تحسين الوضعية الاجتماعية للوصول إلى مرحلة التوازن المادي بين الطلب الداخلي والمداخيل والتعفف الذاتي عن تكريس هذه الظاهرة.. الأمر يبدو منطقيا إلى حد ما مع غلاء الأسعار، التي لا تعلن عن أخبار زياداتها المطردة كل يوم، دون أن نفكر في إيجاد حلول لها، لأنه على الأقل سيقلل من نسبة المرتشين، وينقص من أعدادهم، ولا يبقى ضمنها إلا أولئك الذين لا يفرقون بين الحلال والحرام، وهؤلاء، الذين لا يملأ جوفهم إلا التراب، تتدخل التشريعات القانونية لزجرهم والبدء بالقطط السمينة وصولا إلى أصحاب العشرة دراهم، حتى لا ينطبق علينا قول المصطفى عليه السلام:إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه و إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. كما أن الإسلام حسم في القضية منذ مراحله الأولى بتحريمه لأكل السحت، سواء بوحي القرآن العظيم، الذي يقول الله تعالى:(يأيها الذين آمنوا لا تاكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم)، وجاء في الحديث النبوي لعن طرفي المعادلة لتطهير المجتمع من مساوئهما، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم قوله:لعنة الله على الراشي والمرتشي، وجاء اللعن بإطلاق ليشمل كل التحايلات على الرشوة. وسد النبي صلى الله عليه وسلم كل المنافذ المسوغة لأخذها عندما أرسل رجلاً على الصدقة فلما رجع قال الرجل:هذه لي وهذا لكم، فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال: إنا نستعمل الرجل منكم على عمل فيرجع فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟. ويبقى لزاما على كل مسلم التعفف عن أخذها أو إعطائها أو تيسيرها، وللضرورة أحكامها وتقدر بقدرها، لكن مواجهتها ليس يوما يخصص بل هي تربية يومية وجهاد نفسي قبل أن تكون تشريعا قانونيا.