لم يعد هناك أحد يجادل في أن الرياح الديموقراطية، التي هبت على العالم قد خلقت وعيا عاما مناهضا لتدخل العسكر في الحياة السياسية، وأن المكان الطبيعي للجيش هو أن يبقى في خدمة القضايا الكبرى للأمة، أي حماية السيادة والدفاع عن الوحدة الوطنية ضد التهديدات الخارجية والإسهام في دعم جهود التنمية المدنية. فالجيش ينبغي أن لا يكون له لون سياسي إلا لون العلم الوطني. ويعتبر ابتعاد الجيش عن الحياة السياسية أحد المؤشرات الكبرى للتطور الديموقراطي والاستقرار السياسي، كما نشاهد ذلك في الدول العريقة في الديمقراطية، على عكس ما نراه في الدول المتخلفة مثل الدول العربية ودول القارة الإفريقية ودول جنوب أمريكا. من هذه الزاوية لا يمكن لأي ديمقراطي أن يسعد لنبإ الانقلابات العسكرية الدموية أو البيضاء الناصعة أو المتخفية المستترة، وكيف يكون الأمر كذلك ونحن شاهدون على معاناة شعوب إفريقيا وأمريكا الجنوبية، وكثير من دول جنوب أمريكا مع مخلفات الانقلابات العسكرية. والأمر نفسه يصدق على الانقلاب العسكري الأخير في موريطانيا. لكن المثير للتقزز فعلا هو أن تبادر بعض الدول الكبرى، التي لها تاريخ حافل في دعم الأنظمة الاستبدادية، والتي حركت انقلابات عسكرية في هذه المناطق من العالم، ورحبت بأخرى وسكتت عن ثالثة إلى إدانة الانقلاب العسكري الأخير، ومنها فرنساوالولاياتالمتحدةالأمريكية، فنظام معاوية ولد سيدي أحمد الطايع لم يخرج من صناديق الاقتراع، بل جاء محمولا على هدير الدبابات وبانقلاب عسكري دعمه شخصيا رئيس الأركان الفرنسي عام ,1984 فحصل على دعم فرنسا، كما حصل على دعم الولاياتالمتحدة بعد ذلك عبر خط التطبيع مع الكيان الصهيوني. ولذلك لا يمكن أن نأخذ مأخذ الجد التصريحات، التي صدرت عن الفرنسيين والأمريكان، ولا يمكن تفسير تلك التصريحات إلا بأنها حرص على حفظ ماء الوجه وإلا بأنها مواقف احتياطية في انتظار اتضاح توجهات النظام الجديد في ما يتعلق بالمصالح الفرنسية، وفي ما يتعلق بخط التطبيع بالنسبة للأمريكان. كما لا يمكن أن نأخذ كذلك مأخذ الجد تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة، الذي يجلس على كراسي منظمته ممثلون لأنظمة جاءت بانقلابات عسكرية أو تستمر في الحكم بانقلابات عسكرية دائمة، أي سواء من خلال حالة طوارئ دائمة أو من خلال انتخابات مزورة وغير تعددية. الانقلابات العسكرية كأسلوب في التغيير السياسي مدانة مهما تكن التبريرات السياسية لها، هذا ما يقوله منطق الديمقراطية، وما تقوله بعض المجموعات العسكرية من أنها إنما جاءت من أجل الإنقاذ، وأنها لن تحكم إلا خلال مرحلة انتقالية يتم بعدها تنظيم انتخابات ديمقراطية ليس في كثير من الأحيان سوى محاولة لتبييض العمليات الانقلابية وتبرير تدخل العسكر في الحياة السياسية. وفي الغالب، فإن تلك المرحلة الانتقالية تنتهي بتنكر العسكر في أزياء مدنية وترشيح أنفسهم في انتخابات مزيفة تنتهي بإضفاء شرعية مدنية انتخابية على انقلابات عسكرية. ونحن إذا تصفحنا في وجوه وخطاب كثير من رؤساء إفريقيا وكثير من الدول العربية سنجدهم عسكريين متنكرين في أزياء مدنية أو مدنيين يحكمون لصالح طغم عسكرية. المثير للاستغراب حقا هو ذلك النفاق الأمريكي الفرنسي بإصدار تصريحات تندد بالانقلاب في موريتانيا. والمثير للقلق أيضا هو أن تصل درجة الاستبداد والقمع والانسداد السياسي في بعض البلاد العربية والإفريقية أن تقابل انقلابات عسكرية بتأييد جماهيري وترحيب من قبل النخب السياسية والثقافية، كما يبدو من خلال الأخبار وردود الفعل الأولية عن الانقلاب العسكري في موريتانيا. إن ذلك يعني أن حالة الكبت السياسي والقطيعة مع خيارات الأمة للنظام البائد قد وصلت إلى حالة أصبح معها الرأي العام ينتظر أي مخلص وبأي وسيلة كانت ولو انقلابا عسكريا. وكيف لا يكون الأمر كذلك وهو يعلم أن النظام المذكور، إنما جاء على هدير دبابة وسام المعارضة السياسية سوء العذاب وغرد خارج سرب الأمة بالارتماء في حضن صهاينة إسرائيل. إنه زمن الفتن، التي يصبح فيها الحليم حيرانا، ويصبح فيها المواطن المقهور مرغما على التمسك بأي قشة أمل في التغيير، سواء جاء بانقلاب عسكري على ولي لإسرائيل أو جاء بتدخل الآجل المحتوم ، ولله في خلقه شؤون . وبين استبشار الشعب الموريتاني بخبر الانقلاب وقواه السياسية التي كانت مقموعة وبين إدانة الفرنسيين والأمريكان، ابحث عن مصالح الأولين وتخوف الآخرين من ضياع حليف مطبع مع إسرائيل ، فإذا تحققت الأولى وتأمنت الصداقة الموريتانية الإسرائيلية خلال العهد الجديد فليذهب العهد البائد للجحيم، فإن الأمريكان والفرنسيين لا يبكون حبا في سواد عيون ولد الطايع ، وربما لن تشفع له صداقته السابقة مع الفرنسيين وتطبيعه مع الصهاينة في نيل تأشيرة دخول إلى البلدين، (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون)، وأن الانحياز إلى صف الأمة والشعب أولى.