سؤال مشروع ؟! كم من المسلمين اليوم يعلمون في أي شهر هجري نحن ، فضلا عن اليوم ؟ وهل ثمة احتفاء بأي عام هجري جديد يمكن مقارنته من أي وجه مع حجم الاهتمام بأي عام ميلادي ، ناهيك عن هذا الهَوَس غير المسوغ من قبل العرب والمسلمين للاحتفاء بقرن ميلادي نصراني جديد ؟ ولو تذكرنا استقبالنا للقرن الخامس عشر الهجري الإسلامي قبل عشرين عاما لأدركنا مدى الكارثة الحضارية التي تمكَّن الطرف الحضاري الغالب أن يفرضها علينا حتى غدونا مستَلَبين حضاريا حتى في توثيق أحداثنا الخاصة وقضايانا الإسلامية المختلفة ، في حين لا يخطر ببال أي من الغربيين على أي مستوى أن يوثِّق حدثا خاصا أو عاما يعنيهم أو يعني سواهم بالتقويم الهجري الإسلامي ؟! . اتصال التاريخ الإسلامي بالبعد الحضاري : والواقع أن الاتهام المنتظر قد يرد في صورة استخفاف واستهجان يَصِمُ المهتمين بإثارة موضوع كهذا بالسطحية والشكلية ، وذلك الاتهام هو صناعة ذوي المنزع السطحي من المستَلَبين استلابا مركَّبا ، ولعل ذلك يتضح من خلال الآتي : إن قضية الاستقلال وترسيخ الهوية والإصرار على الخصوصية الحضارية تشمل ضمن ما تشمل الاحتفاظ بذاكرة الأمة عن طريق توثيق أحداثها من منطلق تاريخها الذاتي الذي ينتسب إلى حدث كبير غيَّر مجرى التاريخ في العهد الإسلامي الأول ، وذلك الحدث هو هجرة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ، كما أن مسألة الاستقلال تعني استقلالا شاملا لا يقف عند حدود تحرير الأرض فحسب ، ولكنه يتجاوز ذلك إلى تحرير منهج التفكير وأسلوب العمل . ولنا أن نوجِّه جملة من التساؤلات المنطقية إلى كل من ينازع في اتصال هذه المسألة بالبعد الحضاري : * هل يقبل الآخرون إن كانت المسألة هامشية سطحية أن يرصدوا أحداثهم بالتقويم الهجري الإسلامي بحيث لا يترددون أن يوثقوا تاريخ الحملة الصليبية الأولى عام 498ه بدلا من 1096م ومعركة حطين التي انتصر فيها المسلمون على الصليبيين عام 583ه بدلا من 1187م . إذن لماذا يصمِّم بعضنا على أن المسألة هامشية وإثارتها أمر غير مفهوم ومستَهجَن لدى بعضهم الآخر ؟ أليست المسألة إذن راجعة إلى " سنَّة وَلَعِ المغلوب بتقليد الغالب أبدا " كما نص على ذلك العلامة ابن خلدون ؟ * هل للاحتفاء والاهتمام المبالغ فيه بقدوم الألفية الثالثة أو دخول القرن الحادي والعشرين أي منطق إسلامي وسند شرعي مقبول خاصة في ظل تاريخ صراعٍ حضاريٍ متعدد الوجوه ؟ * هل يَعِي الذين يُهَوِّنون فداحة الخطأ المرتكب بحق ذاكرة الأمة أن الأمر بلغ ببعض الكتاب والمتحدثين أن يطلقوا مصطلح ( العصور الوسطى ) على نحو يُشعِر ظاهره بوقوفٍ ضد هذا العصر وأحداثه جميعا ، لأنه رمز الرجعية والتخلف والجمود ، وهم بهذا يؤكدون أنهم ضحية الغزو الثقافي الغربي ومركزيتِه المتطرفة التي تفترض في نفسها الكون كله ؟ . إن مصطلح ( العصور الوسطى ) مما هو نَبتَةٌ غربية خالصة لا يعني المسلم المعاصر من قريب أو بعيد ، لأنه يطلق عندهم على الفترة الواقعة بين سقوط روما في القرن الرابع الميلادي وبين عصر النهضة الأوربية في القرن الخامس عشر ، وتُمثل هذه المرحلة أسوأ مراحل الضعف والتخلف بالنسبة للأوربيين ، في حين شهد التاريخ الإسلامي في الفترة الواقعة في القرن السادس الميلادي تحديدا فجرَ الإسلام وعصرَ الرسالة ومبعثَ الوحي المحمدي ، وبدءَ انطلاقة التحرر . وامتدادُ الحضارة الإسلامية بعد ذلك يُعدُّ امتدادا لرسالة الإسلام الأولى ، فكيف تم تقبل ذلك المصطلح والترويج له ؟ ألا ترون خطورة التقليد الأعمى ؟! * وأخيرا ألا ترون أننا نقع في التناقض المعيب حين تحصل أحداث مباركة كحرب رمضان سنة 1393ه وتشتهر عقب المعركة بحرب 10رمضان ، ثم ما تَلبَث أن تختفي وتصبح مشتهرة بحرب 6 أكتوبر 1973م ؟! إن هذا كله يعني بلا نزاع أن الميلادي النصراني أضحى الأصل الذي لا يحتاج إثارة أو نقاشا ، والهجري هو الاستثناء الذي يستحق ذلك ، وبهذا انقلبت موازين الدخيل والأصيل حقا ، فغابت ذاكرة الأمة الحضارية تماما أو تكاد . نداء : عدم العناية بالتاريخ الهجري تسول ثقافي وانسلاخ من الهوية !! إنه كلما توالت الأيام نشعر أن هناك أياد خبيثة تدهدهنا نحو الهاوية ، ونسمع أصواتا تنعق بثقافة الاستلاب و الحقد للتاريخ ، ثقافة تقدس الآخر وتعدم الذات . ثبت في حديث جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض الكتب ، قال أي جابر : فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب ؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، ولو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتَّبعني " حسنه الألباني كما في ظلال الجنة رقم 50 . أيها المثقفون .. أيها المفكرون : إن ثقافتكم الإسلامية الموثقة بعنصر التاريخ الهجري هي رائدة الثقافات ، بل هي الثقافة المرسلة لجميع الأمم ، لينهلوا منها ويتعلموها ويبنوا عليها سلوكياتهم . إن العناية بثقافتنا وتاريخنا الهجري عقيدة لا يمكن بأي حال أن نتنازل عنها ، ومبدأ لا يجوز أن نتزحزح عنه . أيها الكتاب والصحفيون .. أيها الموثقون والمؤرخون : يجب أن نتمتع بثقافتنا كأمة مستقلة حضاريا ، لها شرف الانتساب لثقافة ذات الامتداد الزمني العميق والتاريخي الواسع ، ضمن الله بقاءها وما زالت الألسن رطبة بها ، وقد حافظ عليها أجدادنا و خدموها أيما خدمة ، فقعدوا لها القواعد وأصلوا لها الأصول باعتماد تاريخ الأمة الأصيل وذلكم هو التحرر في أسلوب العمل الدال على أصالة في منهج التفكير . إن مصيبتنا هي العجز النفسي عن عرض تاريخنا الهجري وتوثيق مختلف الأحداث به ، حتى أن من أبناء جلدتنا من قام يطعن فيه هو بنفسه قبل أن يعتدي عليه العدو عجزا منه وضعفا أمام الثقافة الإسلامية . بصمة أخيرة : إلى كل غيور أيها المسلمون : إن تاريخنا الإسلامي يحتاج إلى أمة صادقة في حمله ، معتزة بنقله ، قوية في نشره واعتماده في كل الميادين ، وأن تحافظ عليه حتى لا ينسى أمام غزو تاريخ لا علاقة له بديننا ولا هويتنا ولا حضارتنا العظيمة . فلنرددها ولا كرامة قائلين : ( الولد للفراش ، وللعاهر الحجر ) . وكل عام هجري ،، وذاكرتكم الحضارية بخير بقلم / إدريس أجمي * عن مجلة الاستقامة القطرية