تُعتبر القمة المغرية الخليجية التي احتضنتها الرياض في 20 أبريل 2016، منعطفاً استراتيجياً سيكون له ما بعده ليس على الساحة العربية وحدها بل على التوازنات الدولية كلّها. وقد جاءت هذه القمة في وقت تعيش فيه الأمة العربية واحدة من أحلك أزماتها السياسية التي تهدد وجودها وكيْنونتَها. لذلك كان الردّ في مستوى التحديات المشتركة التي تواجه المغرب ودول الخليج، خاصة في المجال الأمني. وقد أكد البيان الختامي للقمة على تعزيز الشراكة الإستراتيجية وتنسيق المواقف في مواجهة كل التهديدات المُحدقة بالمنطقة العربية. ولأول مرة تعلن دول الخليج بشكل رسمي وجماعي تأييدها لسيادة المغرب على الصحراء، ووقوفها إلى جانبه في الدفاع عن وحدته الوطنية وسلامة أراضيه أمام التطورات التي تعرفها هذه القضية على خلفية تصريح الأمين العام الأممي، بان كي مون. ويكتسي هذا المكسب طابعاً استراتيجياً في مواجهة المؤامرة التي يقودها النظام الجزائري ضد المغرب منذ أربعين سنة. من جهتها، تنظر دُول الخليج إلى المغرب كحليفٍ موثوق به للتصدي لاستفزازات إيران وتهديداتها التي لم تتوقف منذ وصول الخميني إلى الحكم سنة 1979. فالمغرب كان إلى جانب دول الخليج المساندة للعراق في حرب الثماني سنوات لاسترجاع شطّ العرب من الاحتلال الإيراني. ومعروف أن الخميني كان يرفع آنذاك شعارَ "إعادة فتح مكة!"، مع ما يحمله من رغبة في الهيمنة وحمولة طائفية عدوانية ضدّ الدول العربية وخاصة منها السعودية. وقد أثبتت الوقائع الحالية في اليمن وسورية والعراق، وقبلهما في لبنان، حجم المشروع الإيراني في اختراق المنظومة العربية وزعزعة استقرارها. وهو مشروع هيمنة طائفية على العالم الإسلامي، يتخذ الإيديولوجية أو العقيدة وسيلة للتغلغل والتجنيد. وللأسف، نلاحظ أن هذا المشروع لا يقف عند الدول التي تعيش فيها أقليات شيعية تاريخية، بل امتد إلى المنطقة المغاربية والإفريقية. لهذه الاعتبارات وغيرها، يكتسي المحور الأمني والعسكري في الشراكة الاستراتيجية مكانة بارزة، إلى جانب بقية المحاور الدبلوماسية والقضائية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية. والاتفاقات الموقعة في مجال الدفاع المشترك والتصنيع الحربي والتعاون الاستخباراتي، ليست إلاّ تحصيلَ حاصلٍ للعمل الميداني القائم بين المغرب وهذه الدول، والذي أرسى دعائمه الملك الراحل الحسن الثاني مع الشيخ زايد آل نهيان والملك فهد. فمعروف أن المغرب حاضر من خلال قواته المسلحة والدرك الملكي بشكل خاص في الإمارات، ومن خلال مشاركة أزيد من خمسة آلاف جندي مغربي في الدفاع عن المملكة العربية السعودية خلال حرب الخليج، حتى لا نسوق غير هذين المثالين. بل إنّ المغرب قطع علاقاته مع إيران بسبب تطاولها على البحرين سنة 2012. ثم لا ننسى أنّ المغرب يخوض حرباً في الحقل الديني لتحصين الدول الإفريقية من التغلغل الطائفي الإيراني، الذي أصبح يهدد وحدة المذهب المالكي والتماسك الداخلي لهذه الدول. وبالعودة إلى القمة المغربية الخليجية، لا يخفى أن الأمة العربية تعيش حالة من فقدان التوازن الاستراتيجي غيرِ المسبوقة، تُشبه الحالة التي كانت عليها عشيّة دخول الاستعمار الأوربي عند نهاية القرن التاسع عشر. وأبرز مؤشرات هذه الهشاشة الإستراتيجية هي سقوط أربعة أنظمة عربية جُملة واحدة وفي ظرف قياسي يتراوح بين 23 يوماً كما هو الشأن بالنسبة لتونس، وبضعة أشهر بالنسبة لمصر وليبيا واليمن، فيما النظام الخامس ما زال يعيش حرباً أهلية بنكهة طائفية، تشارك فيها قوى إقليمية ودولية منذ خمس سنوات على الساحة السورية. وليس العراق بأحسن حالاً، حيث يعيش حالة حرب منذ ما يزيد عن 35 سنة، كانت بدايتها مع إيران سنة 1981، وانتهت بالاحتلال الأمريكي سنة 2003، ثم حرب طائفية غير مُعلَنة قسّمت عملياً بلاد ما بين النهرين إلى ثلاث كيانات، واحد شيعي والثاني سنّي والثالث كردي. وما لبثت "الأيادي الخفية" والأجندات الدولية المتآمرة، أن استنبتت كياناً مشوهاً جينيّاً سمته "الدولة الإسلامية" في لسان العرب، و"إيزيس-ISIS" بلسان العم سام. وكأنّ "الأخ الأكبر" –big brother- أراد أن يستولي على ميراثنا الحضاري بعد أن استولى على ميراثنا السياسي والجغرافي. "فالدولة الإسلامية" تُحيل في مُخيّلتنا الجَمعيّة على أمجاد التاريخ العربي في بغدادودمشق ومراكش وفاس والقاهرة وقرطبة، كما أن "إيزيس" تحيلنا بالإنجليزية على آلهة مصر والحضارة الفرعونية. وفي اللعبة الدولية، لا شيء يأتي بمحض الصدفة، حتى الصدفة نفسها! لم تَسلم من حالة الانفلات هذه إلاّ الدول المُشكلة لما باتَ يُعرف بنادي المَلَكِيّات، وهي دول الخليج الستة والمغرب والأردن. وقد بدأت تستشعر اقتراب الخطر من حدودها وتآمر الدول الغربية لإعادة رسم الخرائط وتجزئة المُجزّأ، واستكمال ما بدأه "المِسْتَر" سايكس و"الميسْيو" بيكو سنة 1916. وقد شكل التقارب الإيراني الغربي عموماً، والأمريكي تحديداً، أكبر مؤشر للغموض الاستراتيجي الذي خيّم على المنطقة، ونبّه دول الخليج إلى التحول الذي عرفته السياسة الأمريكية في المنطقة، والتي لا تعترف إلاّ بالمصالح. ورغم أن نظام "الجمهورية الإسلامية" لم يتنازل عن برنامجه النووي الأول، فإن ذلك لم يمنع الولاياتالمتحدة التي تُسميها إيران "الشيطان الأكبر"، من إبرام اتفاق نووي، نهاية سنة 2015 مع نظام "الآيات الشيطانية" بتعبير سَلْمان رُشدي. والغريب في الأمر أن طهران خلال فترة الحصار ضاعفت قُدراتها النووية، حسب الوكالة الدولية للطاقة الذرية نفسها، أكثر من أربع مرات بالنسبة للطرّادات النووية، وشيّدت عدة مواقع جديدة تضم منشآت نووية لتفادي ضربة مفاجئة كما حدث مع مُفاعل تَموز العراقي سنة 1982، والذي دمّره سلاح الجو "الإسرائيلي". بمعنى آخر مُبررات الحصار والعقوبات الدولية على النظام الإيراني ومقاطعته اقتصادياً خلال ما يقرب عشر سنوات لا زالت قائمةِ، ومع ذلك قرّرت واشنطن المصالحة معه على حساب حلفائها الخليجيين. ليس هذا وحسب، بل سمحت لإيران بابتلاع العراق كاملاً، وأصبح مُجرّد مقاطعة إيرانية يحكمها من يُزكيهم المرشد الأعلى في طهران. وأصبحت فيالق الحرس الثوري تملك معسكرات علنية في بلاد "صدّام"، وبات الجنرال الإيراني قاسم سليماني هو القائد الفعلي لما يُسمى الجيش العراقي، بعدما تمت تصفيّة الجيش العراقي الحقيقي بأوّل قرار اتخذه الحاكم الأمريكي "بريمر" مباشرة بعد احتلال بغداد. كل ذلك على مرأى ومسمع من القوات الأمريكية المرابطة في العراق، وقيادتها المُتحصّنة في المنطقة الخضراء بوسط عاصمة الرّشيد. إلى جانب ذلك، تغاضت الولاياتالمتحدة والدول الغربية، حتى لا نقول شجعت تمدّد النفوذ الإيراني إلى سورية، بخوضها حرباً مباشرة بواسطة الجيش النظامي والميلشيات الطائفية التي استقدمتها من كلّ المناطق الشيعية في العالم تحت مسميات "حزب الله"، و"عصائب الحق"، و"كتائب أبو الفضل العباس"، و"جيش المهدي"، وهلمّ تنظيمات عسكرية. ثم أحكمت الخِناق على اليمن باستعمال الورقة الطائفية ممثلة في "الحوثيين"، بعد أن كانت في السابق قد بسطت نفوذها على لبنان، حتى أصبح "حزب الله" دولة داخل دولة. ولا ننسى احتلالها بقوة السلاح لثلاث جزر إماراتية، هي أبو موسى وطنْب الكبرى والصغرى، وسعيها لزعزعة الاستقرار في مملكة البحرين، بل ادّعت أنها كانت مقاطعة إيرانية في السابق، ثم تطاولت بعد ذلك على المملكة العربية السعودية بالتدخل في شؤونها الداخلية وتحريضها للأقلية الشيعية. وإذا أضفنا إلى هذه المعطيات، ما يصدر عن المراكز الإستراتيجية الأمريكية في العُشريّتين الأخيرتين من نظريات "الفوضى الخلاقة" و"الدولة الفاشلة" و"الدولة المارقة" أو "الصّعلوكة" "و"صراع الحضارات" و"نهاية التاريخ"، فإننا نخلص دون عناء إلى أنّ التيار المحافظ في الولاياتالمتحدة قد أجرى انحرافاً بزاوية تسعين درجة في سياسته في المنطقة العربية، وبات يُنفذ "مؤامرات تستهدف المس بأمننا الجماعي" كما قال الملك محمد السادس في خطابه بالرياض، مضيفاً "إنهم يريدون المس بما تبقى من بلداننا التي استطاعت الحفاظ على أمنها واستقرارها، وعلى استمرار أنظمتها السياسية". وهي مؤامرة مبنية على دراسات تُبشّر بالشرق الأوسط الكبير، الذي سيقوم على أنقاض النظام العربي الموروث عن نهاية الحرب العالمية الثانية. ويُمكن اختزال هذا المخطط في تفكيك الدول القائمة، وإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، على أساس دولة لكل مجموعة إثنية، أو طائفة دينية. بحيث تُصبح المنطقة العربية عبارة عن فسيفساء يستحيل معها قيام منظومة سياسية تملك مقومات استقلال القرار، أو من شأنها أن تهدد المصالح الحيوية للغرب، بما فيها أمن "إسرائيل" والإمدادات الطاقية بسعر "مناسب" تُحدده بورصات العواصم الغربية. وكما تم توظيف الورقة القومية والثورة العربية، على وَجاهَة ونُبل مقاصدها، لتفكيك الإمبراطورية العثمانية وتوزيع تركة الرجل المريض، يتم اليوم استعمال ثورات الربيع العربي، والورقة الإيرانية الطائفية، لضرب أمن واستقرار الدول العربية وإعادة تجزئتها. وليس صدفة أن تروج أكبر صحيفة أمريكية "جادّة"، وهي نيويورك تايمز، لخارطة تظهر فيها ثلاث دول مكان المملكة العربية السعودية، وثلاث دول في العراق، ومثلها في سورية ومصر، بالإضافة إلى الكيان الوهمي في جنوب المغرب. واليوم نرى التقسيم يقترب أكثر فأكثر من منطقة المغرب العربي، حيث أصبح واقعاً فعلياً في ليبيا. ويواجه المغرب منذ أربعة عقود مخططاً رهيباً لفصل أقاليمه الجنوبية عن المملكة. وقد كان المخطط في البداية من تدبير إسبانيا الاستعمارية، ثمّ ما لبثت أن "فوّضت" هذه العملية القذرة لنظام "العسكرتاريا" الجزائري، بل إنّ النظام الجزائري لم يتورّع عن الخروج عن الإجماع العربي، حيث ساند النظام الإيراني في حربه على العراق في الثمانينيات من القرن العشرين. واليوم خرج عن الإجماع العربي مرتين خلال الشهر الماضي، الأولى بمعارضة قرار الجامعة العربية تصنيف "حزب الله" منظمة إرهابية بسبب جرائمه ضدّ الشعب السوري وتحالفه مع إيران في القتال داخل سورية واليمن والعراق، وتدريب الميلشيات الطائفية البحرينية. أما الثانية فحين زار "وزير خارجية الجزائر المكلف بالشؤون العربية والإفريقية" المدعو عبد القادر مساهل نهاية أبريل العاصمةَ دمشق لمساندة نظام الأسد وإرسال إشارات الحقد والعداء تجاه القمة المغربية الخليجية. وبذلك يكون النظام العسكري الجزائري قد حكم على نفسه «بالعزلة الإستراتيجية" عن محيطه العربي، واختار التآمر خدمةً للمشروع الإيراني الذي يصبّ في النهاية في المشروع الغربي الصهيوني لتفتيت الدول العربية. ولعلّ جنرالات الجزائر قد فاتهم، عن وعي أو غير وعي، أن مخطط التفتيت لا يستثنيهم، بل أكاد أقول أنهم على رأس القائمة لعدة اعتبارات قد لا يتسع المجال لبسطها في هذا الحيّز. أمام كل هذه التحدّيات يأتي التحالف الاستراتيجي بين المغرب ودول الخليج، كبارقة أمل لكل الشعوب العربية من أجل إعادة ترميم وحماية الأمن القومي العربي، من خلال تأسيس "كتلة إستراتيجية" تُشكل نواةً صلبة لنظام عربي جديد، تكون فيه الدول العربية فاعلاً استراتيجياً وليس "حديقة خلفية لأحد" كما قال محمد السادس في خطابه أمام قادة دول الخليج.