أحرص، من خلال كتابات كثير من العلمانيين المتنورين، أن أقنع نفسي بالطرح القائل إن العلمانية تحترم الدين ولا تناقضه أو تعاديه وإن مجال اشتغالها يكمن في ما هو مدني وتدع ما لقيصر لقيصر، وإنها تنشد أن تعم الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان وتحترم قناعات الأفراد والجماعات. غير أن هذا الطرح ما يكاد يجد من الناس مصدقين حتى تقتلعه من جذوره كتابات وتصريحات وتعليقات على أحداث ووقائع على الأرض، فيصدق على ذلك المثل السائر هذا الذي كنت تخبئين وهو المثل الذي قيل في رجل خطب امرأة ظن بها جمالا فلما رآها خاب ظنه. مناسبة هذا الكلام ما تناقلته الصحف الوطنية والعربية وكثير من المواقع على شبكة الأنترنيت التي تعنى بشأن التربية والتعليم وما يرتبط بهما من أخبار ومستجدات عن مشروع إصلاح التعليم الديني بتركيا، هذا المشروع الذي قدمته حكومة منتخبة ديموقراطيا وناقشه وصادق عليه برلمان ديموقراطي، ثم رفعه إلى رئيس الدولة للمصادقة عليه، كما تقتضي قوانين وأعراف البلاد، ثم أرجعه الرئيس إلى البرلمان لمزيد من التدقيق وإدخال بعض التعديلات، ثم يرجع القانون إلى الرئيس للمصادقة عليه هذه المرة أو يرفع الأمر إلى المحكمة الدستورية. إلى هنا تكون القضية مسطرية، والبلد يعمل بكافة أجهزته على تفعيل القانون والاحتكام إلى ما يقره، وبالنظر إلى ما يحمله هذا القانون من إصلاحات نجد أهمها ربط هذا النوع من التعليم عن طريق جسور بالتعليم العام، وربطه أيضا من خلال تكييف برامجه ومناهجه بسوق الشغل، ولا يملك أي عاقل إلا أن يثمن هذه الخطوة ويعززها مهما كانت قناعاته، لأن حق التعليم وحق الشغل تكفلهما القوانين والأعراف الدولية، وتحميهما الشرائع السماوية قبل ذلك، ولا يمكن أن يكون الموضوع محل خلاف. إلا أن قوما، ممن لا خلاق لهم، ناهضوا المشروع باسم حماية علمانية الدولة، وهم بالمناسبة ليسوا أتراكا، وذكروا بالمبادئ التي قامت عليها تركيا منذ مصطفى كمال، وطالبوا العسكر بالتدخل لوقف هذا الخطر الداهم الذي سيعمل - حسب تصورهم - على توسيع رقعة التعاطف مع التيارات الإسلامية، وذلك مبرر كاف لنبذ الديموقراطية وحقوق الإنسان وتجويز انتهاك حقوق الأفراد والجماعات في تحقيق رغباتها وخياراتها، ولو كانت عن طريق تفعيل آليات الديمقراطية. وهنا تصبح الشعوب أمام وضعية لا تحسد عليها، وتتجلى في فقدان الثقة في آليات الحكم المعاصرة إذا كانت نتائجها ستتعرض للمصادرة، وبطلب ممن يعتبرون أنفسهم حماة الديمقراطية، فيلجؤون إلى أساليب المناورة والصراع غير البريء ، ويسلمون أنفسهم لفكر شمولي وممارسة سلطوية تلغي الرأي العام، وهو ما ترفضه العلمانية نفسها في أدبياتها النظرية، ولكن بعض العلمانيين يجد في ذلك ملاذا حين تمس مصالحه وتهتز على أرض الواقع مشاريعه ومخططاته. لا تهمنا طبيعة الصراع السياسي الذي تعيشه تركيا في ظل التقاطبات التي تعرفها علاقة الجيش بالبرلمان والحكومة منذ تجربة نجم الدين أربكان، ولكن الذي يهمنا هو التفاعلات التي سيعرفها ملف إصلاح التعليم الديني في هذا البلد وانعكاساته بالضرورة على واقع هذا النوع من التعليم في بلدان العالم العربي والإسلامي. وإذا ما أردنا أن نقرأ واقعة إصلاح التعليم الديني في تركيا، في ضوء هذا التحليل، فإننا نكون أمام خيارات ثلاثة اعتمدت في العالم العربي والإسلامي منذ أن ارتفعت أقلام على عهد الخديوية في مصر، تنادي بإصلاح الأزهر وانعكاسات ذلك على مشاريع إصلاح القرويين بالمغرب والزيتونة بتونس، وما زالت هذه الخيارات تتفاعل إلى الآن. أما الخيار الأول فهو خيار المقاربة الاستيعابية، وتستهدف إصلاح التعليم الديني من خلال تحديث برامجه ومناهجه وإدماج خريجيه في سوق الشغل وإيجاد جسور الارتباط بينه وبين مسالك التعليم العام، والإقرار بدوره الحضاري في تاريخ الأمة الإسلامية، وإعادة الاعتبار لمؤسساته وللعلماء المشتغلين بها، والسعي إلى إبراز إشعاعه العلمي والتربوي في وقت تحتاج فيه الأمة إلى تعبئة كافة خصوصياتها وتجاربها الحضارية للتكيف مع الهجوم الكاسح للعولمة، وهو الخيار الذي انتبه المغرب أخيرا إلى أهميته حين سن قانون التعليم العتيق وعمل على تفعيله بتنصيب الجهاز المركزي الذي سيشرف عليه في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، كما ترسخ من خلال تحديث وعقلنة وتجديد برامج التعليم الأصيل، بإضافة شعبة التوثيق والمكتبة، إلى شعبه، وهي شعبة جديدة تربط هذا النوع من التعليم بسوق الشغل من خلال عمل المتخرجين منها في تكشيف وفهرسة وتحقيق التراث الإسلامي في المكتبات العامة والخاصة ومراكز البحث والمؤسسات التعليمية والمتاحف وغيرها، مع تطعيم البرامج والمناهج بما ينمي الكفايات التكنولوجية والتواصلية من قبيل تعزيز حضور اللغات الأجنبية ومادة الإعلاميات. ولم يمر هذا الخيار الإصلاحي أثناء عملية صياغة البرامج والمناهج دون أن يلقى معارضة ومقاومة بقفازين من حرير، لم تكن عندي مبررة إلا حينما اطلعت على أسباب مناهضة خطة إصلاح التعليم الديني في تركيا. أما الخيار الثاني فهو خيار المقاربة الاستئصالية، ويسعى إلى إغلاق مؤسسات التعليم الديني وطرد طلبته ومدرسيه وتهميش رجالاته لتجفيف منابع التدين في المجتمع، وحصر امتداداته في الإعلام والاقتصاد وغيرها، وهو الخيار الذي يفتخر بعض زعماء هذا التيار بتمكنهم من تطبيقه على أرض الواقع ويدعون غيرهم إلى الاقتداء بهم في ذلك، وهم مستعدون لتقديم الخبرة اللازمة لذلك، لأن أي تحديث لهذا النوع من التعليم يشكل أكبر عائق في وجه علمنة المجتمع، ويكفي أن نشير في ذلك إلى التجربة التونسية التي تزعمها عفيف الأخضر حين كتب مرات عديدة وصرح في أكثر من ندوة علمية، مفتخرا بأنه تمكن من إغلاق جامع الزيتونة. وهذا الخيار لم يكن ليجد له صدى حتى في الأوساط الغربية لولا أنه ركب موجة محاربة الإرهاب ليحقق ما كان يخطط له منذ بداية الستينيات، غير أنه رغم كل ذلك بقي خيارا معزولا وجد مبرراته في الصراع السياسي ولم يستطع أن يجد، ولو مبررا واحدا، في المجال التربوي والعلمي والتعليمي. أما الخيار الثالث فهو خيار الإهمال حتى الاضمحلال، ويقوم هذا الخيار على تجميد أي دعم لهذا النوع من التعليم من طرف الدولة، وتركه تحت رحمة الاستجداء وعدم تطوير برامجه ومناهجه، وإهمال الجانب المادي والتربوي لمدرسيه وعدم الاعتراف بشهادات التخرج منه وفوق كل ذلك نعته بالجمود والتخلف، وهو رهان اعتمده الاستعمار في بلدان العالم العربي. ويكفي أن نمثل لذلك بمصر والمغرب، غير أن هذه السياسة لم تحقق مبتغاها، إذ سرعان ما احتضن الأهالي هذا التعليم بالدعم والتمويل، فاستطاع أن يفرض ذاته في تكوين الطلبة في العلوم الشرعية والقرآن الكريم والحديث الشريف والسيرة النبوية، في غياب أي توجيه أو رقابة أوعناية من طرف الدولة، فكان من الطبيعي أن يكون في الحصاد جذذ بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود. وحين انتبهت الدول إلى ذلك، سارعت إلى استعمال المقاربة الأمنية، حسب الخيار الاستئصالي، عوض المقاربة العلمية والتربوية، حسب خيار المقاربة الاستيعابية. وقد أيدت اتجاهات علمانية متطرفة هذا الخيار ضدا على العلمانية الحداثية، لأن تقديم التعليم الديني في شكل جديد وجذاب يهدد مصالح هذه الفئة، وعند هذه النقطة بالذات تلتقي مصلحة هؤلاء بالانغلاق، فهو الذي يجعل مشاريع التطرف العلماني مبررة ومقبولة، أما تحديث الدين فيجعل هذا المشروع مستهجنا ومعزولا، وهنا بالضبط نعرف لماذا يزعج الإصلاح.