(3) استطاع المتنبي أن يعبر عن واقع عصره بصدق، بكل ما فيه من تناقضات وتناحر اجتماعي وسياسي وتقاتل في سبيل الحكم وغنائم السلطة، ولأن الظروف السياسية في ذلك الوقت، وفي كل وقت في العالم العربي الإسلامي، لم تكن تسمح له بالصراحة والوضوح، فقد كان يلجأ أحيانا إلى التورية وتقنية القلب، سواء على مستوى العبارة أو على مستوى المدلول، بحيث يبدو للقارئ أو السامع أنه يقصد شيئا بينما هو يعني غيره، من ذلك مثلا كما سبقت الإشارة إظهار المديح فيما هو يقصد الذم والسخرية من الممدوح. وربما كان المتنبي هو أول من أسس للشعر الساخر في الشعر العربي، إذ أن سخريته تتجاوز مهمة الإضحاك إلى التحريض على الوعي السياسي والألم، بخلاف ما نلاحظه مثلا عند شاعر كابن الرومي، الذي عرف بسخريته التي تهتم بإثارة الضحك لدى السامع من أشخاص معينين أو من نفسه، لكن السخرية عند المتنبي كانت تعكس النضج السياسي والصراع القائم بينه وبين واقعه المضطرب، إلى الحد الذي لا يكاد يتوافق معه، فيتفجر ذلك التنافر سخرية تارة، وتمجيدا للذات تارة أخرى، كشكل من أشكال الانتقام من الواقع السياسي. فعندما يهجو كافورا مثلا يقول: أغاية الدين أن تحفوا شواربكم يا أمة ضحكت من جهلها الأمم؟ أو يقول مصورا حالة الوضع السياسي واستبداد الحكام: بكل أرض وطئتها، أمم تُرعى بعبد، كأنها غنم أو ينتقد الحاكم الذي يتلاعب بالدين لأغراضه الخاصة: شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة ويستحل دم الحجاج في الحرم أو يسخر من عصره والنخبة السياسية والأدبية ويحقرها: وإنما نحن في جيل سواسية شر على الحر من سقم على بدن حولي بكل مكان منهمُ خِلَقُ تخطي إن جئت في استفهامها بمنِ وهو ينتقد الأوضاع السياسية العامة في بلاد العرب، وانتشار الفقر رغم الثروات الموجودة فيها، وسيطرة فئة قليلة على مقدراتها: مغاني الشرق طيبا في المغاني بمنزلة الربيع من الزمان ولكن الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان ولكن سخرية المتنبي تطال الدنيا نفسها، التي جربها بتقلباته الكثيرة في كل أرض، فأصبح شعره يتدفق بالحكمة الخالدة، فيقول مثلا: كلما أنبت الزمان قناة ركب المرء في القناة سنانا ورماد النفوس أصغر من أن تتعادى فيه وأن تتفانى غير أن الفتى يلاقي المنايا كالحات ولا يلاقي الهوانا ويقول أيضا: سُبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها مُنعنا بها من جيئة وذهوب تملكها الآتي تملك سالب وفارقها الماضي فراق سليب وتصل سخريته بالدنيا حدا يقول فيه بيتين قد يثيران الضحك لدى القارئ: إذا ما تأملت الزمان وصرفه تيقنت أن الموت ضرب من القتل وما الدهر أهل أن تؤمِّل عنده حياة وأن يُشتاق فيه إلى النسل إن عظمة المتنبي وبقاءه حيا بيننا بشعره الذي نقوله وكأننا نكتبه اليوم هو ما جعل مصطفى صادق الرافعي يقول عنه: "إن هذا المتنبي لا يفرغ ولا ينتهي، فإن الإعجاب بشعره لا ينتهي ولا يفرغ، وقد كان نفسا عظيمة خلقها الله كما أراد، وخلق لها مادتها العظيمة على غير ما أرادت، فكأنما جعلها بذلك زمنا يمتد في الزمن"، وإلى اللقاء. إدريس الكنبوري [email protected]