(2) تتجلى عظمة شاعر كالمتنبي في كونه يتخطى الحواجز بين الأزمان والأمكنة ليستمر عائشا مع كل جيل، قال عنه أحد النقاد إنه شاعر سبق زمانه، وقال عنه آخرون إنه الشاعر العربي الحداثي الوحيد الذي يستطيع أن يتغلب على المسافات بين الأجيال والتقاليد الأدبية والفنية. إن شعر المتنبي يقطر بالحكمة وبالتجربة الاجتماعية والسياسية التي راكمها خلال حياته المتقلبة في مرحلة من التاريخ العربي الإسلامي، تميزت بالتناحر والصراع على الحكم، ووقوف النخبة أمام أبواب السلطان تنتظر العطايا وتبيع مواقفها مقابل حفنة من الدنانير، فالعصر العباسي كان عصر الازدهار الفكري، ولكنه كان أيضا عصر الصراعات السياسية والمذهبية، وكان المتنبي لسان هذا العصر وترجمانه. ومشكلة المتنبي أن لسانه كان أطول مما يستطيع الناس فهمه، فقد خلق شعره تشويشا كبيرا في أذهان الناس والنقاد والمفسرين، حتى اتهموه بالكفر والزندقة تارة، مثل قوله مثلا: يترشفن من فمي رشفات هن فيه أحلى من التوحيد فانطلق البعض من الكلمة الأخيرة لاتهامه بالخروج عن الملة، وهو رأي لم يكن صوابا، ودليل ذلك أن السيوطي قال: ويجوز أن يكون من التوحيد الذي هو الدين، مستعملا فعل التجويز الذي لا يعني الحسم، وعندما قرأت الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي وجدت أن التوحيد هو نوع من أنواع التمور كان بالعراق، وبه سمي والد التوحيدي لأنه كان يبيعه، وهو معنى يساير المقصود في البيت. واتهموه أيضا بأنه ادعى النبوة، في قوله: أنا في أمة تداركها الله غريب كصالح في ثمود وهو لم يتجاوز كونه شبه نفسه بالنبي صالح عليه السلام في قومه، للتدليل على مدى الصراعات السياسية والجري وراء المكاسب الدنيوية التي كانت منتشرة في عصره، وغربته هو في المعركة من أجل المبدإ ، وخطأ مثل هذه القراءات التبعيضية أنها تقتطع الأبيات أوالكلمات من سياقاتها ولا تقرأ المتنبي من خلال فلسفته العامة في الحياة ورؤيته للوجود. فقد كان المتنبي في الكثير مما قاله ينطلق من الرؤية الإسلامية، حتى وإن ظهرت لديه أحيانا نوازع قومية ضيقة في فترة من الفترات أملتها الظروف، عندما يقول مثلا: فلا تسمعن من الكاشحين ولا تعبأن بعجل اليهود أو عندما يقول: خضعت لمُنصلك المناصل عنوة وأذل دينُك سائر الأديان والطرْق ضيقة المسالك بالقنا والكفر مجتمع على الإيمان أو عندما يقول راثيا أحدهم: إني لأعلم واللبيب خبير أن الحياة وإن حرصت غرور فقد كان يرى الأمور عبارة عن ثنائيات لا بد من الاختيار بينها، ثنائية البطولة والخيانة، والشجاعة والجبن، والحكمة والغباء، والكفر والإيمان، وربما كان هذا هو ما جعله يكثر من التركيز على نفسه في شعره، حتى ليبدو أنه يمدح نفسه عندما يمدح الآخرين، بل إنه في الغالب لا يفرق في المدح بين نفسه وبين الممدوح، فيمدح دون أن ينسى نفسه، وهذه خصلة لم نشهدها في الشعر العربي القديم لدى غير المتنبي. ولكن مدحه لا يكون دائما مقصودا وإنما يجعله ملغوما أحيانا كثيرة مثلما يقول في مدحأبي المنتصر بن محمد بن أوس مثلا، إذ يعتقد السامع أو القارئ أنه يمدح والد الممدوح، مع أنه يسخر منه، ويقصد باسم محمد النبي صلى الله عليه وسلم: أمريدَ مثل محمد في عصرنا لا تبلنا بطِلاب ما لا يُلحق لم يخلق الله مثل محمد أحدا وظني أنه لا يخلق وللحديث بقية وإلى اللقاء ادريس الكنبوري [email protected]