في كل يوم يودع الإنسان عزيزا على نفسه في دينه ووطنه ومجتمعه، أو يسمع أن آخرين توفاهم الأجل المحتوم، وتشتد حسرته على هذا الفراق، خاصة إذا كان الفقيد قريبا له أو تربطه به علاقة حميمية خاصة، ويتيقن وقتها أن الحياة الدنيا لا تساوي شيئا، وما أن يمر زمن على ما حدث حتى ينسى أو يتناسى ما وقع، آملا أن وجوده الذاتي هو الأصل وتستمر دورة الحياة. ومن هنا يتبين أن الإنسان يعيش حياة لا يعرف كنهها وحقيقتها، رغم أن العمر الإنساني من طبيعته أنه هارب ومنفلت، ولا يستطيع أيا كان ومهما بلغ أن يوقف انسيابه الطبيعي، فمن فرح بالولادة واستنشاق لنسيم الحياة إلى طفولة ففتوة ثم كهولة وشيخوخة فوداع، إنها الدورة العمرية العادية، ولكن الله تعالى يتوفى الأنفس أنى شاء وفي أية فترة عمرية لحكمة يعلمها عز وجل. وعند الوداع والفراق يستوي الشيخ الذي عمر أكثر من المائة سنة والشاب والطفل الرضيع، الكل انمحى من حياة الناس ولم يبق له إلا قبر شاهد على أن الذي كان لم يبق له أثر، وهذا ما يكشف أننا لم نفقه حقيقة الحياة التي نعيش فيها إلا من رحم الله تعالى واهتدى بتعاليم الإسلام. إن العمر الإنساني بطبيعته منفلت، وهو شبيه بانفلات المناظر والمشاهدات أمام راكب قطار مكوكي سريع، لا يترك للناظر فرصة لتدقيق النظر في الأشياء ومعرفة حقيقتها، ولتقريب هذا المعنى، يمكن القول إن القطار هو العمر، والمناظر هي الوقائع التي يعيشها الإنسان في حياته، والوصول ومغادرة القطار هو مغادرة الدنيا إلى عالم آخر سماه الإسلام دار القرار الخالدة. وحتى إذا ما أراد أحدنا أن يتذكر حقيقة وجوده فلن يستطيع توقيف الزمن المنفلت، لأن اللحظة الزمنية التي يخلد فيها للتذكر واسترجاع ما فات هي نفسها جزء من عمره الهارب، فهو، سواء رضي أم كره، كادح إلى ربه فملاقيه، والسؤال ماذا أعد لهذا اللقاء. والقرآن الكريم، دستور أمة الإسلام بجميع أجناسها ولغاتها، يقر هذا الانفلات في أمثلة عديدة، في دورة الزرع من وقت خروجه من تحت الأرض إلى أن يصبح حطاما، وحتى عندما جاءت الآيات القرآنية تميز بين الحياة الدنيا والدار الآخرة، اعتبرت الأولى متاعا زائلا وساحة للتفاخر بالأموال والأولاد واللهو، وجعلت اليوم الآخر هو (الحيوان لو كانوا يعلمون)، ويوم الخلود الدائم والأبقى. ويؤدي جهل بعضنا بحقيقة الحياة الدنيا وانفلات العمر إلى سلوك سبيلين: إما الارتماء في الشهوات والملذات والمسكرات ليخفف وطأة الموضوع على نفسه وعقله، وإما الالتجاء إلى التفلسف أكثر في تفسير الحياة عقلا وحسا، لأنه اعتاد معرفة حقيقة الأشياء بالمشاهدة العينية بغض النظر عن المشاهدة القلبية. وهذا الجهل أيضا هو الذي يجعل صاحبه يتهافت على الدنيا لامتلاك الشقق والعمارات وتكديس الأموال من حلها وحرامها، وابتغاء الوجاهة البشرية والعيش في القصور المشيدة، ظنا منه أنه إذا ما مات فإنه سيعود إلى ما جمع مرة أخرى، ولكن القرآن ينبه إلى هذا بتمثيل يزعزع النفوس المتبصرة: (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها جاءها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس)، أي أن هذه الحياة التي عاش فيها متنعما وعاث فيها فسادا لم تغن بالأمس. وسلفنا الصالح تفطن لحقيقة الحياة الدنيا وحقيقة العمر المنفلت، فهذا رسولنا الكريم يلبي داعي الله بالرحيل ويفضل ما عند الله بعدما بلغ ما أرسل من أجله في هداية البشرية جمعاء، وليس العرب فقط، ووصف بعض علماء المسلمين عمر الإنسان بمجموعة أيام إذا ذهب يوم ذهب بعضه. إن بداية صحوة كل فرد نحو معرفة حقيقة الحياة والعمر تبتدئ بأخذ خلوة نفسية، يتفكر فيها ما سبق من أفعاله وما سيأتي، وما هو المطلوب منه من هذه الحياة بعدما تأكد له أنها منفلتة، مستنيرا بالآية الكريمة: (وما خلقت الجن والإنسان إلا ليعبدون)، وليس لشيء آخر. عبدلاوي لخلافة