يحتار الناس في قضية غرس حبّ اللغة العربية لدى أبنائهم، فكلما توجه الآباء إلى حل أو وجهة إلا وجدوا أنفسهم وأطفالهم في معاناة مستمرة سواء للقراءة بها أو الاستماع إليها والمشاهدة بها أو استعمالها. فإذا توجهوا إلى الكتب وجدوا غيابا لقصص أطفال عربية ذات معنى ومبنى رشيقين، وإذا جلسوا أمام شاشات الفضائيات تابعوا أفلاما ورسوما كرتونية ذات ملامح وجوهر غربيين، وإذا ذهبوا إلى السينما وجدوا أفلاما غربية فقط، وحتى لو تجولوا في عالم الإنترنت وجدوا الحال نفسها تتكرر. كل أب عربي قد يحكي نفس معاناته في كيفية غرس حبّ القراءة باللغة العربية لدى أبنائه، بدءا من المكتبة حيث لا يجد إلا القليل من القصص التي يراها وأبناؤه دسمة المادة ومشوقة الأحداث، وليس انتهاء بوقت القراءة حيث يصاب الأب قبل الابن بإنفلونزا الضجر من اللغة المباشرة والجافة التي تطفح من تلك القصص. هذه المعاناة تشتدّ عندما نتذكر تلك الدراسات العلمية التي تؤكد أن أفضل طريقة لغرس حب القراءة لدى الأطفال هي قراءة القصص عليهم قبل النوم،وأن على الأهل توفير ما يحبه الأطفال من القصص التي فيها متعة وفائدة لهم، خاصة وأن للأطفال ذوقهم الخاص،وإذا حافظ الطفل على هذه العادة وسار بهذه الطريقة فإنه يكتسب بمرور سنوات قليلة 30 مليون كلمة، لكن أنّى للآباء أن يقوموا بهذه المسؤولية في ظل ضعف الإنتاج والمحتوى في أدب الأطفال؟ وإذا بحثت عن القصص الإلكترونية العربية وسط طوفان من القصص الإلكترونية الغربية تجد المشهد نفسه يتكرر. اختلاف البيئة والوسيلة عندنا لا يعني اختلاف المواد المعروضة للأطفال. وحسب تقرير (ترك فراغ) لليونسكو صدر مؤخرا فإن القراءة تحتل المرتبة الأخيرة بالنسبة لاهتمامات المواطن العربي، حيث يقرأ 6 دقائق سنويا مقابل 200 ساعة للفرد في أوروبا وأميركا، أما الطفل العربي فيتفوق على الكبار بدقيقة واحدة أي أنه يقرأ 7 دقائق في السنة، لكنه هو الآخر متأخر عن نظرائه الغربيين حيث يقرأ الطفل الأميركي –مثلا- 6 دقائق في اليوم! وإذا كان يصدر كتاب واحد فقط سنويا لكل 12 ألف مواطن عربي، في مقابل 500 كتاب إنجليزي و900 كتاب ألماني، فلا داعي للسؤال المحرج عن عدد الكتب للموجهة (ترك فراغ) للأطفال! أما إذا سألت محرك البحث غوغل عن أشهر عشر قصص أطفال عربية، فستكتشف إجابات صادمة، وأترك لك الفرصة للاطلاع على النتيجة بنفسك، وذلك على عكس لو بحثت عن قصص غربية! لم أبخس حق قصص جميلة ومواد عربية متميزة تقدمها جهات حكومية وخاصة هنا أو هناك، في هذا البلد أو ذاك، بهذا الشكل التقليدي أو ذاك الرقمي، لكنها إما أنها مبادرات فردية، متفرقة في البلد الواحد، محكوم عليها بالجهد الفردي أو بالتجاهل أوبالإقصاء، وإما أنها تقدم منتوجا ذا لغة عالية تناسب أعمارا دون أخرى بين الأطفال، دون أن ننسى الذوق (ترك فراغ) العام المتدني الذي أصاب أبناء اللغة العربية ومجتمعاتها، وإما أنها تعاني من قلة الدعم والإعلان والنقد التوجيه البناءين.. فيزداد وضع العربية (ترك فراغ ) بين أطفالنا معاناة وتعقيدا. وإذا تغافلنا (ترك فراغ) فعل القراءة وتأثيره العميق وتوجهنا إلى القنوات الفضائية نجد في الغالب رسوما متحركة مترجمة إلى العربية، وأغاني وأناشيد بلهجات محلية، وفي الإنترنت تعج المواقع الإلكترونية بأشرطة مصورة لكنها مكررة عن ما تبثه تلك القنوات.. وبينما يشهد موقع يوتيوب -مثلا-منافسة محمومة من قبل "الآخر" على إنتاج متواصل للمواد والمواضيع الموجهة للطفل بأشكال وإخراج جديدين، نجد أن القاسم المشترك في المنتج العربي هو أن الأجود في الشكل والتقنيات وغيرهما تقدمه شخوص أجنبية في بيئة غربية لكن بلغة عربية. من يزور دور السينما، يرى المشهد نفسه، الأفلام الموجهة للأطفال كلها غربية وذات شخوص ومحتوى غربي، لكنها تقدم محتواها بخطاب عاطفي إنساني يخاطب أعماق الطفل، وتستغل التقنيات السينمائية والرقمية لتقديم مشاهد أكثر جذبا للصغار والكبار معا. المعاناة هنا مضاعفة، ففي كل أسبوع تقريبا تطرح السينما فيلميْن للأطفال على الأقل، ولن تجد ولو فيلما عربيا واحدا موجها للطفل العربي من خلفية عربية وقضايا عربية وبيئة ومشاهد وشخوص عربية وذلك طوال السنة وليس لمدة أسبوع! هكذا يعيش الطفل العربي مغتربا في بيئته من أكثر من جهة، من ناحية اللغة التي تحملها تلك الأفلام وهي غالبا الإنجليزية، مع وجود ترجمة مكتوبة بالعربية لا يستطيع (تصحيح خطأ) حتى الكبار مواكبتها، كما أن اللغة حاملة لثقافة ورؤية خاصين بمن يتكلم بها وليس بمن ينتج تلك الأفلام فقط، دون أن نتحدث عن بعض السلوكيات التي تخالف قيمنا وبيئتنا العربية الإسلامية. ومن ناحية الشخصيات وهي غربية بامتياز وتعبّر عن القيم الغربية، وهذا من حق من ينتجها، بل وواجبهم الوطني والقومي أيضا. وحتى نخرج من دوامة معاناة الأطفال والآباء المتواصلة مع اللغة العربية،فلابد من تضافر الجهود وتنويع مداخل الحلول، ولعل أبرزها إقامة جائزة بوكر سنوية لقصص الأطفال تكون شبيهة بجائزة بوكر للرواية العربية، تشرف عليها مؤسسة عربية حكومية أو خاصة، وذلك من أجل فتح باب التنافس بين الكتاب والأدباء العرب للكتابة للطفل، وصياغة أجود القصص وأجملها لغة ومعنى وشكلا. وكذلك إقامة مهرجان لسينما الطفل، مهرجان يفتح الأبواب على مصراعيه للإبداع سينمائيا للطفل أيضا والاستفادة من خبرات الدول الغربية في هذا المجال، ويمكن القيام بالعمل نفسه في المجالات الأخرى من أفلام كرتون أو فيديوهات موجهة للأطفال من خلال الإنترنت وغيرها من أشكال النشر التقليدية والحديثةالتي تساهم في محاصرة معاناة اللغة العربية في أوطانها وبين أبنائها.