لا أوافق إخواننا الخطباء والوعّاظ من الذين اعتادوا جلد المصلين على تقصيرهم في العبادة، فنحن باختصار في مجتمع لا تنقصه العبادة، فمساجدنا والحمد لله عامرة بالمصلين، وهناك مطاولة ومصابرة في صلاة التراويح والقيام، بل والسعي لمن يطيل في القراءة أكثر من غيره، حتى إنك تجد زحمة شديدة في مواقف السيارات حيثما سمعت بقارئ معروف يصلي في هذا المسجد أو ذاك، وهذه الظاهرة موجودة في أغلب بلداننا الإسلامية وإن كانت بنسب متفاوتة ومظاهر مختلفة، مع أن التراويح والقيام هي من السنن والنوافل التي يتقرب بها الناس إلى الله على سبيل التطوع وازدياد الخير وليس على سبيل الإلزام، فالأمة إذاً بخير أيها المشايخ الفضلاء، فلا تتوسعوا في لومها وتقريعها. الأمة اليوم لا تعاني من نقص في (التعبّد) وإنما تعاني من نقص في التعلّم و (التفقّه)، والسلوك اليومي الذي نشاهده ينطق بهذه الحقيقة، داخل المساجد وخارجها. في الأسبوع الماضي صلّى بجنبي شاب مثقل بالمرض، وقد ملأ المكان بعطاسه وسعاله، حتى اختلط صوته بصوت الإمام، إنه تعلّم أن يستكثر من الحسنات في رمضان، وأن يصبّر نفسه على الطاعة مهما كان مرضه، لكنّه لم يتعلّم أن أذيّة المسلمين حرام، وأنه بحالته هذه معذور من جماعة الفرض فضلا عن جماعة التراويح. الأغرب من هذا أن تعرض علينا حالات في الصوم متعلقة بصحة الصائم فنتصل بمن نثق به من الإخوة الأطباء فيجيبنا بعضهم (أن الله لم يشرّع شيئا فيه ضرر)، و (أن الصوم صحة)، وأن (الأجر على قدر المشقّة)، فأقول له: يا أخي هذه المواعظ اتركوها لنا، خبّرونا بما عندكم من الطب، حتى قلت لأحدهم مازحا: إن سؤالي ليس عن شخص صائم وإنما عن شخص مضرب عن الطعام والشراب، لأن التديّن الذي عند الطبيب في بعض الأحيان يجعله يتردد في قول المعلومة الطبية خوفا وورعا أن تؤثّر على الصوم، وهو لا يعلم أن الصوم المضر بالصحة إثم، وأن الطبيب قد يكون شريكا في هذا الإثم وهو لا يعلم! في مكان آخر يشكو أحد العمّال من تأخير رواتبه، وأنا أعرف ربّ العمل صائما قائما منفقا، فأتعجّب، ومرّة كنا في مجلس مفتوح فكنت أحدّثهم عن الذنوب غير المنظورة، تلك التي لا يفطن لها من يرتكبها، وبالتالي لا يتوب منها، ومثّلت لها بهذه الحالة، فالراتب يستحقّه العامل نهاية الشهر أو بحسب الاتفاق، فإن تأخر عنه بلا إذن منه فقد اختلط ماله بمالك ولو ليوم واحد، فكأنك صرت تعمل في مالك وماله معا، لا على وجه الدَّين ولا على وجه الشراكة، وهذا إثم ولو كان مثقال ذرّة (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)، فرأيت اندهاشا ثم تفاعلا طيبا، مما يدل أن هضم حقوق الآخرين في كثير من الأحيان ليس بسبب قلّة الأمانة ولا ضعف التديّن، بل لقلّة التفقّه، وقد ذكرني هذا الموقف بمقولة لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما كان يقول: (لا يبيع في سوقنا إلا من يفقه وإلا أكل الربا شاء أم أبى). ومرّة اتصلت بي امرأة سمعت من زوجها لفظة الطلاق فتريد أن تترك بيتها ظنا منها أن بقاءها معه في البيت محرّم، فاندهشت حينما قلت لها: إن البيت بيتك، وإن زوجك إذا كان لا يريد أن يراك فليخرج هو، فالله يقول في مثل حالتك: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدّة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبيّنة وتلك حدود الله ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه)، فهل هناك تهديد للزوج أشد من هذا التهديد؟ لكن هذا الزوج الظالم لنفسه والمتعدّي لحدود الله قد يكون في الصفّ الأول لصلاة القيام أو التراويح، وهو يؤمّن مع الإمام أن يغفر له الله ويرزقه الجنّة، وهو لا يدري أنه لو قطع صلاته وذهب يؤدّي حق زوجته لكان أقرب إلى المغفرة وإلى الجنة. وقد رأيت رجلا حافظا للقرآن يمنع زوجته من الدخول إلى بيتها لأنه ينوي طلاقها! وفي بيتها كل ما تملك حتى جواز سفرها وبطاقتها الشخصية! أخطر من كل هذا حينما تراهم يخوضون في الشأن العام و(السياسات الشرعية)، فترى هذا الصفّ الموحّد في المسجد قد أصبح شذر مذر في كل مسألة تطرح عليه، وكأنه لم يكن يسمع قرآنا واحدا، حتى يصل الخلاف إلى الثوابت والمسلّمات، فيسوّغ للظالم الظلم وللقاتل القتل وللغادر الغدر بقواعد سمعها سماعا وبنصوص لا يعرف معناها ولا مغزاها، وقد قال أحدهم: لماذا تعيبون على داعش الذبح ورسول الله يقول: جئتكم بالذبح؟ فقلت له: متى قال رسول الله ذلك؟ قال: في مكة، قلت ومتى أذن للمسلمين بالقتال؟ قال: في المدينة! قلت كيف يشرّع الذبح وهو لم يؤذن له بالقتال أصلا؟ إن هذه الفوضى (الدينية) قد تولّدت نتيجة للجهل العام، ثم بإدخال الدين في دائرة (حرية التعبير) و (الرأي والرأي الآخر)، فالأخ لا يفرّق بين الفتوى الدينية التي يستشهد لها بالآيات والأحاديث وقواعد الشرع، وبين الرأي الشخصي. لقد كان بإمكان (الدروس الرمضانيّة) أن تعالج جانبا من هذه الفوضى، وأن تسهم برفع مستوى الوعي العام، وحل المشكلات المختلفة في التصورات والعلاقات والمعاملات، لكنها هي الأخرى جنحت نحو (التعبّد) بعيدا عن (التفقّه) فساهمت في توسيع الفجوة بين سلوك المصلّين في المساجد وسلوكهم خارج المساجد!