دأبتْ مجموعة مِن قنواتنا الإعلامية المُسمّاة (دينية) على بثِّ حلقاتٍ خاصّة عن حَدثِ بدرٍ، يتبارى في تأطيرها وُعّاظٌ وعُلماء يُلْقون بين يدي النّاس مّما تَحصَّل لديهم من علوم الدنيا والدين حول الحدث العظيم، كلٌّ من وجهة نظره، والمُلتقى واحد (آياتٌ بيّنات من الذكر الحكيم ونُتَفٌ خالدة من السيرة النبوية المجيدة)، كما توارَثَ خُطباء مساجدنا جَعْلَ موضوع غزوة بدر الكُبرى عنوانَ خُطَبِ الجُمَعِ مِنَ اليَوْمِ السَّابع عشر من كلّ شهور رمضان المباركة، واليوم تحلّ علينا الذّكرى (1434) لهذه المعركة الفاصلة في تاريخنا العظيم، والمَيْسَم الخالِد الذي تَفرَّدت به فترة الجيل المُؤّسِّس للإسلام، والعَلَامَةُ الفارِقة في تاريخ النّبوّات والدّعوات الإصلاحية التي قضى الله بأن لا تُهزَمَ، وإن تربّص لها المُتربِّصون من (الثَّقَلَينِ) من كلّ جانِب، فلن يكون المصير إلاّ بانقلابهم على أعقابهم دُحوراً، وانتِصار الحقّ والحقيقة والإسلام والمُسلمين في آخر المطاف. وإنّنا على قدر تَشَوُّقِنا لعَيش أبعاد اللحظة وحضوريّة الامتداد، والتأثُّر برذاذ الحادِث الذي تفصِلنا عنه قُرُونٌ ليست بالقليلة؛ على قَدْرِ ما تنهشنا أسئلةٌ عن طريقة وقدرةِ وُعّاظِ أمَّتِنَا وخطباء مساجِدنا وأئمّتِنا الميامين على تقديم هاته الغزوة، وعن تكييف وقائعها مع عقول الناشئة والأجيال المُبتعِدة عن اللحظات الصافية الطافية لعصر التأسيس، والإجادة في عرْضِ أحداثها بلُغة العصر عرْضاَ دقيقاً مُقْنِعاً، وتَفهيمِ الأمّة معانِي نُصرة الله بطرُقه المتعدّدة لأوليائه والمُناضلين من عِباده، الذين امْتَشَقوا السِهام والرماح وامتَطَوا الخُيول والنّوق ووضعوا أرواحهم على أكُفِّهم وابتَغَوا النّفير ونُصرة البشير النّذير يومئذٍ، وأولئك الذين لا زالوا الآن على نَهجِهم وطريقتهم يُناضلون بالكلمة والسلوك والتّرافُع المدني والنّزال المعرفي والمُدافعة الميدانية (ثقافيا وسياسيا واجتِماعيا)، والرفع من جاهِزية التّلقّي الحضاري والسُّنَنِي عن آيات الله، وتعميق استِلال المعانِي الظاهرة والكامنة من أحاديث وفِعالِ النبيّ الخاتَم، رَجُلُ المَلْحَمَةِ وقائد طلائع المُجاهِدين في معركة بدْرٍ الكُبْرى، بَدْر الأمل والسّعي والعمل، بَدْر الهدف والمثال، بَدْر الصدّق والفداء والتضحية والوفاء، بَدْر البطولة والرّجولة، بدر الالتفاف والاستشراف. ورِفْعَةً لمقام الابتداء، وتسابقًا لمقام الإحاطة المُسبقة بحيثيات/نهايات هاته الغزوة الشهيرة، وتلمّسًا للموضع الصحيح في عملية استذكار غزوة بدر ومِن ثَمَّ الاستِمداد من مَعِينِ لحظاتها ودلالاتها، نقول وبالله التّوفيق: إنّ الإسلام قد أباح للأفراد وللأمم حقَّ الدّفاع عن النّفس ضدّ مَن ينتهك حقّها في الوجود، ويُهدِّد كِيانها الاجتماعي والثقافي ورابِطتها العَقَدية والدينية، مَهما كانت نوعية تلك القوى التي تَضادُّها، وحَثَّ على ذلك في بعض الأحيان، ودعا إلى الاستعداد والاستمداد ممّا هو مُتاح في اليد من (فِكر، وعلم، وقٌوة مادية وروحية..)، وانطلاقا من هاته النقطة وضع الرسول القائد صلى الله عليه وسلّم أسُسَ كيفية استعمال القوّة داخل إطار من الانضباط قبل 14 قرنا. تُحيطنا معركة بدر العظيمة عِلمًا بمَغبّة الاعتراض على تقدير الله وتخطيطه، إذ في الوقت الذي كان النبيُّ وصَحْبَه الكرام يَرْغَبُون في العِير، شاء الله إلّا أنْ يُحَوِّل هذا المسعى نحو (النّفير وذات الشّوكة) ليقضيَ أمراً كان مفعولاً، كما تَنقُل لنا الواقِعة مساعِي المُسلمين الأوائل إلى رَدْعِ الظّلم وحِفْظِ الهيبة وتأسيس كيان إسلامي يَحْسِب له الآخرون ألْف حساب، ومِن أجل إعطاء مُتَنَفَّس جديد للدعوة وبناء مُشتَرك إنساني عربي- عربي في مواجهة الصَّلَف والطُّغيان العربي – العربي.. كانت موقعة بدر. تَنقل لنا الأحداث التاريخية إرهاصاتٍ سابِقة عن يوم انعِقاد المعركة، لعلّ أبْلَغَها في التّعبير، الاشتداد والإمعان الذي مارسَه جبابرة قريش وتحالُفها العربي الظالِم في إذلال المُسلِمين وطردهم مِن ديارهم وإبعادِهم عن أبناءهم وأهاليهِم، ومقاطعتهم على مستوى التجارة والزواج والتّلاقي العائلي، وسرقة أموالِهم واستلاب أراضيهم، وَوَضْعِ يَدِهِم على أمْلاك الرسول والمُسْتَرَقِّينَ من تابِعيه بأمّ القُرى، الأمر كان يجرح كرامة الصحابة ويُحزِنُهم ويُؤذِي النّبِيّ الخاتَم، ولو أنّ ربَّ السماء والأرض أطالَ المُهْلَة ولم يَسْمَح بِرَدِّ العدوان وصَدِّ الطّغيان لأَحَسَّتْ جماعة المُسلمين الصامدة المُحتَسِبة بنوعٍ من العذاب النّفسيِّ، ولكن رحمة الله سبَقت، وتدبيراته أسرعت إلى نجدَتِهم {أُذِن للذين يُقَاتَلون بأنهم ظُلِموا؛ وإنّ الله على نصرهم لَقَدير}/الآية، فَتَحْتَ تِلكُم الظّروف، وتحت هذا الإذن انطلق رسول الله في مَهمّة إنفاذ القوّة الإيمانية وصِناعة الانتصارات على أرض ميدان بدر. تزامُنًا مع تباشير النصر الإلهي للمؤمنين المُضْطَهَدين، ويقين الرسول في نَصْر الربِّ له ولأتباعه الخُلَّص، عمل النبي على تهيئة الجبهة الإسلامية داخليا عبر تعزيز القوّة المعنوية {يا أيها النّبيء حرِّض المؤمنين على القتال} ، و{لا تَهِنُواْ ولا تَحْزَنُوا وأنتُم الأعْلَوْنَ}، و{الله معكم ولن يتِرَكُم أعمالكم}، و{ولن يجعل الله للكافِرين على المُؤمنين سبيلاً}، ثَمَّ عَبْرَ إشْرَافِهَ صلى الله عليه وسلّمَ على تكوين قوّة إسلامية رادِعَة بِيَثْرِب والنواحِي، تَحسِب لها قُريشٌ حسابها، كما لم يُغفِل عليه الصلاة والسّلام أمْرَ تثبيت عنصر الأخوّة الإيمانية والطاعة والانضِباط العالِي في الصفّ الإسلامي؛ القوّة الصاعِدة في الجَزيرة العربية. وقُبيْلَ الحدث؛ بادرَ القائد مُحَمَّدٌ إلى تشْكِيل شبكة استخبارات واسْتِعْلَامٍ واسِعةِ النّطاق لم تَسْمَع بها قريشٌ ولا آباؤُها الأقدَمون ولا فكّروا يوماً في تأسيسها، وكفى بالتاريخ ناقِلاً أميناً للدَّوْر الرائد الذي قام به الصحابي (أبو بصير) ضمن هذا المِضمار، حتّى قال في حقِّه رسول الله في ما معناه"ويْحَ أمّه مِسْعَرَ حربٍ لو كان معه رجال". وفي علاقته بالأنصار والمُهاجِرين؛ توجّه عليه السلام فَكوَّن في البِداية "سَرايا" صغيرة يَقِلُّ عدَدُ أفرادها عن عشرة؛ وظيفتها استقصاء الأخبار وجمع المُعطيات وإيصالها للقائد الأعلى لدعوة الإسلام، كما كان مِن مهامّها أيضا: الإشْعار بالكِيان الإسلامي، إظهار أنّ الهيمنَة للحقّ، تهيئة الفضاء لتمرير الرسالة، سُرعة السيطرة على الأمور، إقرار الأمن، تغَطية ظَهْر المدينة المنوّرَة (قاعِدة الدعوة ومُنطَلق دولة الرّسول)، توفير المؤونة والعَتاد..إلخ، وفي بِضْعَة أشْهُرٍ قُبيل بَدْرٍ كانت هاته السَّرَايَا تَظهر في أماكِن بعيدة لم يكونوا يقطعونها آنئذٍ إلّا خلال شهر، أو تَظهر بمَقْرُبَةٍ مِن مكّة بسُرعة ثمّ تختفي؛ مُخَلِّفَةً وراءها رُعْبًا نفسيا لدى العدوُّ الذي بَدَا وكأنَّهُ يُجَرُّ إلى معركة بدْر وهو مُضطربٌ على المُستوى النفسي، ولولا نُفوذ مُقتَرحات رجالات (دار النّدوة) وسَطوة آرائهم، لما واجَهت قُرَيْشٌ أبناءها والمُنفَلِتين من عِقالها ودينها رفقة محمّدٍ في صحراء بدر. تحت هذه الظروف التي رَعَتْها السَّماء وهيَّأتها المُمارسة المُحمّدية؛ جاءت بدٌر الكبرى .. أمُّ الملاحِم وسُلطانة المواجهات وأيقونة المعارِك ! تَوَجَّهَ إليها الرسول مسافةَ 200 كلم في الحَرِّ الشديد وقِلّة النَّصِير والعتاد والماءوالمُجِير، مَشْياً على الأقدام، يتعاقب بين الفترة والأخرى على بَعِيرٍ واهنةِ القُوى مع علي بن أبي طالب ومَرْثَد بن أبي مرثد، يوم السابع عشر من رمضان والنّاس صِيامٌ، رُفْقة 305 من خُلَّصِ العباد، رُهبانُ الليل فُرسان النّهار، وبعضُ كُتُبِ السِّيَر والمغازي ترتفعُ بالعدد إلى 313، ويقول بعضهم إنّ هذا العددَ هو نفسه عدد الجنود الذين قاتلوا إلى جانب داوود عليه السلام في معركته الفاصلة ضدّ جالوت، رمز الاستكبار العالمي زَمَنَئذٍ!، يقول علّامَة عَصْرِه الشيخ مُحيي الدين بن عربي رحمه الله في ( فُصُوصُ الحِكَم ):"فقد كان على رأس أحَد الجيشين؛ النبيُّ داود المٌمَثِّل للخلافة، وعلى رأس الثاني مُمثِّل الشفاعة العُظمى وممثِّل مقام الفَرْدِية محمّد صلى الله عليه وسلّم .."، هذا الخُروجُ النّبوي كان _ كما بيّنا أعلاه _ المقصِدُ الأساسيُّ من وراءِهِ هو "العِير"، عِيرُ قريشٍ المُحَمَّلَة بالمال والخيرات، والمحروسةِ من طرف 40 نفراً من خَدَمِ أبي سفيان بنِ حَرب، لكن أبَى الله تعالى إلّا أنْ يكونَ "النّفير"، وأبَتْ قريشٌ إلّا الذَّوْدَ عن تجارتها وقوافلها القادمة من الشام، لينفتِح عَهْدٌ جَديد، ولتنتصِبَ موازين قوّةٍ جديدة، وليُعلِيَ الله الحقَّ ويُزهِق الباطل وينصر النبيَّ ويَشفِي صدور قومٍ مؤمنين، ويُذِهبَ بأحلامِ الأرستُقراطية القُرشية المَكية حتّى إشعارٍ آخر. كانَ مِن حَسَناتِ بدْرٍ أنْ أبانت عن عُوار الاستبداد بالرأي والاعْتِدَادِ بالنّفْس والتّحشيد عن غير قناعة والاستِنفار من غير تخطيط والاصطِفاف المَقيتِ بعَصَبِية جاهِلية جَهلاء الذي كانت عليه قُريش، كما كان من حَسناتها أنْ جَعَلَتْ عَالَمَ البداوة العربي يَشْهَدُ ميلادَ جيشٍ نظاميٍّ للمرّة الأولى؛ مُهَيّأٌ نفسيا، موَحِّدٌ عقائديا، متوحِّدٌ غائِيًّا، موصولُ الحِبال بالسماء روحيا، عليمٌ بميدان القتال جغرافيا، خبيرٌ بمواقع العدوُّ ميدانيًّا، منضبطٌ عسكريا .. وذُو رصيد أخلاقي وتَرْبَوِي لا يُجارى. كانت آبارُ بدْرٍ موقعاً إستراتيجيا، لِذا عَجَّل الرسول وصَحْبَه السَّيْرَ تُجاهها واحتلُّوا الموقع والمَوْضِعَ مِن أقْصَاهُ إلى أدْنَاه، تارِكاً للعَسْكَرِيين وعُقلاء الحروب من بعدِهِ دَرْساً ميدانيا وتخطيطيا منه يتعلّمون ويستَمِدّون، وقد ابْتَدَر عليه السلام بتقسيم الجيش إلى: يسار، يمين، وسط، ورُماةٌ لا يُغادِرون حِمى عريشِه. ولم يكن هذا معروفا وقتَذاك، حيث نَظَّمَ الجَيْشَ بنفسِهِ، وعيَّنَ لهُ مواضِعَهُ، ثم أمر بحفرِ بئرٍ كبيرَة في وسط الموضِعِ حيثُ مُلِئت بماءٍ يكفي الجيش الإسلامي حتى انتهاء المعركة، وأخذ برأي أصحابه .. هنا أودُّ التركيز على مسألة ذات بال في سياق الشّهر الفضيلِ الذي جَرت فيه وقائع المعركة التاريخية؛ لقد نشبت المعركة والصَّحَابة صائمون، وتأمين الماء بالبئر معناه أنهم سيشربون الماء قبلَ وأثناءَ وبَعدَ المعركة، كما معناه تجفيف منابع الرَّواء بالنسبة لقريش، فهل أفطر الصحابة على الماء)؟ كذلك كان أسْلوب حركة الجيش وتوقيت وطريقة استعمالِه للنبال والرِّماح والسيوف ومُعِدّات النّزال الأخرى؛ وموعِدُ تدخُّل المَيْمَنَةِ والمَيْسَرَةِ مُوَضَّحٌ ومُخَطَّطٌ بعناية، وشِعارُ الجيش كما هو معلوم كان يومَها "أَحَدٌ أَحَدٌ" بكلِّ ما يَحْمِل مِن معاني التجريد والتفريد والتّوطيد والتّوحيد.. وبذا أعلن الرسول موتَ الأنظمة القتالية القديمة، وميلاد نِظامِ قتال وحَرْبٍ جديد، وأرسلَ حِنْكَة قريش وخِبرتها الحربية التاريخية إلى مثواها الأخير ! مَرَّت أطوار المعركة كما تعلمون من ثلاث مراحل تكتيكية وعلى قَدْرٍ عالٍ مِن التخطيط العسكري والمُناوَرة التّكتيكية: الأولى: مُبَارَزَةٌ ذاتُ أُفُقٍ اجتماعي مُتبايِن، اقتَرحها الرسول وعارَضَتْها قريش بغرور واستِعلاءٍ سوسيولوجي حادّ، حيثُ أبَتْ إلّا أن تكون المبارَزَة نِدِّيةٌ وذَاتُ انتماءٍ اجتماعيٍّ وقَبَلِيٍّ واحِد، فما كان مِن النبي إلا أن استجاب للمُلتَمس العَنْتَري القُرَشي فقال: "قُم يا عَلي، قم يا حمزة، قُم يا عُبَيْدَة"، وفي غُضُون دقائق مِن عُمْر الشَّوط الأوّل كان الثلاثة قد فَصَلُوا رؤوس أكابر قريش وأشدّ معانديها عن أجسادِها: "عُتبة، الوليد، شَيْبَة"، فانهارت نِسْبَةٌ مُقَدَّرَة من الروح المعنوية لجيش العدوّ . الثانية: تُسَجَّل أبْرزُ سِمَاتِ هذا الشَّوْط فيما يأتِي: اختلال النظام في صفوف قريش وزبانيتها، سيادة الفوضى، خَوَرُ المبدأ والهدف من الاقتتال، الذُّعْرُ وعَوْدَة الرغبة في الحياة من جديد.. أمّا في الطرف المقابل (المُعَسْكَر الإسلامي) فقدْ كانت نِسْبة الطُّمأنينة تزدادُ ارتفاعا، والسكينة تتنزَّلُ تِباعًا، والجُنْدُ ينتظِمُونَ انتظامًا، والجَنَّة تبدو عَيَانًا.. والرسول يدعو ويستَنزِلُ مَدَد السماء. الثالثة: خلال هذا الشَّوْطِ بادرَ غُلامٌ حَدَثُ السِّنِّ _ بعزيمة تَقُدُّ الجبال وبخِبرة الرّجال _ بِتَرَصُّد عملاقٍ الضلال وفرعون الأمّة "أبو جهل" فما هي إلا ثوانٍ معدودة حتّى أرْداهُ قتيلًا.. وأخْبِرُونِي عن جيش ضالٍّ هاوٍ قُتِلَ قائدُه كيفَ تُراه يكون حالهُ ومصيرهُ ؟فبِموته وقَتْلِ أزْلامِ قريشٍ الكبار؛ دخل الجيش الإسلامي التاريخَ الكبير، وَبَنَا الدائِرةَ المُثْمِرَة لصالحِ الدعوة، فَحَصَد النّصر تلو النّصر ! لَقَد أظْهَرَتْ هَاتِه المعركة البُعدَ العسكريَّ الفذّ والفطنة القتالية الرائعة للنبيِّ صلى الله عليه وسلّم، وإيمانه القَوِيِّ بالله، حتى قال له رفيقه أبو بكرِ (يا رسول الله، يَكْفيكَ مُناشَدَكَ ربّكَ؛ فإنه مُنجِزٌ لك ما وعَدَك)، ورباطة جأش تابِعيه ومناصِريه، ومنسوب اليقين العالِي جِدّا الذي كانوا عليه وخَرجوا به من مَعرَكةٍ ما حلِموا بمُشارَكتهم فيها يوماً، إذ استطاع النبِيُّ ومعه حُفنَةٌ من أبطالِهِ المغاوير تحقيق نَصْرٍ مؤزَّرٍ _ كان الله هو (الفاعل الأوّل) فيه _ وتمطيطِ رُقعَةِ سيادتِهِ الدعوية والسياسية والنّفسِية على الجزيرة العربية ضاربًا حُلْم قريش في الهيمَنَة عرْضَ الحائِط، ومُمَهِّداً لمرحلةٍ جديدة للدعوة الإسلامية ولرِجالها ونساءها من الصحابة الكِرام، الذينَ انقَدَحَ على وجوههم نورُ الثّورة على السّائد مِمَّا لَمْ يَكُن النظامُ القديم يقبله، والقُدرة على التغيير والإصلاح، وعلى جَبينِ نجاحِهِ عليه الصلاة والسّلام وانتصاره نقرأ على الدّوام حقيقة "محمّدٌ رسول الله" ! فماذا بقِيَ لنا مِن بدْرٍ.. استِمداداً من عزائم رجالها ويَقينياتهم الكُبرى في ربِّهم وثِقتهم اللامحدودة في رسولهم؟ ما الذي بقيَ لنا مِن بَدْرٍ.. امْتِدَادً في الأرواح والأزمِنة والأمكنة ؟ ما الذي بقِيَ لنا مِن تلك الملحمة؛ نُرَبِّي عليه النّاشِئة، ونُصَحِّح به مسار الأمّة في طريقها نحو التغيير والتّحرير، ونُثَبِّتُ به عزائم المُصلِحين والنّخب والعلماء والخطباء، ونُجَدِّدَ معاني الامتثال لله والاقتداء بنهج رسول الله؟