لقد خلق الله الموت والحياة ابتلاء واختبارا لعباده … هذه حقيقة دلت عليها الآيات الباهرات ، وشهدت عليها الوقائع الشاخصات ، ولكن أكثر الناس قد تغافلوا عن هذه الحقائق الدامغات بسبب ما داهم قلوبهم من الأمراض والآفات …. ولكن هل ترك الله سبحانه وتعالى خلقه وعباده حيارى ضائعين ، بعدما اقتضت حكمته أن ينزل أبوهم آدم عليه السلام من الجنة إلى الأرض ليبدأ مشوار الحياة ؟؟!! طبعا لا … فالله سبحانه هو العدل ، ومن عدله أن جعل باب التوبة مفتوحا للإنسان السادر في غيه ما لم يغرغر … وملأ الكون محطات يتطهر فيها العبد مما يعلق به وبقلبه من ران المعصية والمخالفة ، ووعده بسعادة الدنيا وبسعادة الآخرة في جنة الخلد مقابل عقيدة صحيحة تملأ عليه جوانحه ، وعملٍ صالحٍ قليل تزكو به حياته ، وتركٍ يَعِفُّ به عن الدنايا والرذائل .. يعلم الله سبحانه طبيعة بني آدم … كيف لا وهو الذي خلقهم : ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) … ولذلك ما بخل عليهم برحمته وعفوه ومغفرته وتجاوزه عن الزلات ، فجعل مغفرته فوق كل الذنوب : ( ورحمتي وسعت كل شيء ) … لأنه الله سبحانه الذي لا تضره معصية العاصين ، ولا تنفعه طاعة الطائعين … ولا ينبغي ذلك إلا لله وحده … كيف لا ، وهو القائل : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ، إن الله يغفر الذنوب جميعا ) ، ويقول أيضا : ( إن الذين اتقوا إذا مسَّهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) ، ويقول أيضا : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ، ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ، ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) …. من هنا كان لله في دهره نفحات ، ينبغي للعاقل أن يهتم بها ، ويتهيأ لها ، وأن يتعرض ما وسعه ذلك إلى أنوارها ، مقبلا عليها غير مدبر … إنها أشبه بالمواسم التي يستغلها الحاذقون لمضاعفة أرباحهم وزيادة إنتاجهم ، وتجاوز خسائرهم وتأمين مستقبلهم …. رمضان بهذا المعنى واحد من هذه المواسم الكثيرة التي تستدعي استعدادا خاصا يليق بمقامه الرفيع ، وهو الشهر الذي يشهد انقلابا كونيا هائلا تمتزج فيه الأرض بالسماء فتصبح واحدة تمتلئ نورا وبهاء وروعة ، حتى أن الملائكة المقربين يستأذنون الله أن ينزلوا لمشاركة الطائفين والعاكفين والركع السجود عبادتهم وطاعتهم … ولنا أن نسأل : لمن يحصل كل هذا التغيير الهائل من إغلاق أبواب النيران ، وفتح أبواب الجنان ، وتصفيد الشياطين ، ومضاعفة الأجور ، وتنزل الرحمات … إلى غير ذلك من كرامات رمضان ؟؟؟ الجواب : من أجلنا نحن معشر البشر على وجه العموم ، ومن أجل المؤمنين الطائعين على وجه الخصوص . ليس عجيبا والأمر على هذا النحو أن نعرف أن الصحابة الكرام عليهم رضوان الله كانوا يعدون أنفسهم لرمضان ستة أشهر قبل قدومه عليهم ، فإذا ما انقضى ظلوا يدعون الله سبحانه أن يقبل طاعتهم فيه ستة أشهر أخرى ، فهم بذلك يعيشون رمضان إما استعدادا وإما دعاء ، فلا يبرح رمضان يعايشهم ويعايشونه أبد الدهر …. فرمضان لا يزيد في أعمالهم بقدر ما يزيد في أجورهم … لا يمكن فهم أسرار رمضان إلا من خلال القاعدة العامة التي تضبط علاقة الفرد بالله سبحانه … إنه جزء من منظومة العبادة ، والتي من المفروض أن يكون أثرها تراكميا يشعر به وببركاته الفرد على مستواه الشخصي ، كما يشعر به الكل على المستوى الجمعي … فلسفة رمضان والغايات من الصيام أكثر من أن تحصى ، وقد امتلأت بها بطون الكتب مما لا يتسع المجال لذكر بعضه سواء كان ذلك على مستوى النفس أو المجتمع … كلنا صام رمضان على مدى سنوات طويلة ، فكم منا سأل نفسه سؤال المليون : إلى أي مدى حَسَّنَ الصيام في عمق إيماني القلبي وإحساسي الوجداني ، وبأي نسبة هَذَّبَ الصيام سلوكي الاجتماعي وطوَّر في أدائي الأخلاقي ؟؟…. هذا على المستوى الشخصي ، أما على المستوى الجماعي فلنا أن نسأل : كم منا رصد التغيير الذي أحدثه رمضان في السنة المنصرمة على مستوى الحياة في كل جوانبها داخل مجتمعاتنا الصغيرة ، وما حالها اليوم ونحن على أبواب شهر جديد من أشهر رمضان المباركة ؟؟؟ هل حصل تقدم ما ، هل حصل تأخر ، هل حافظنا على ما تم إنجازه ثم اجتهدنا في تنميته ورعايته ، أم أننا عدنا القهقرى ( كالتي نقضت غزلها أنكاثا ) … هل انخفض لهيب العنف ؟ هل زاد الناس تكاتفا وتراحما وتعاونا ؟ هل توثقت العلاقات بين الآباء والأبناء على قاعدتي الاحترام للكبير والرحمة بالصغير ؟ هل ازددنا قربا إلى الله أم تراجعنا ؟ هل حددنا أولوياتنا بما يتناسب مع واقعنا الحقيقي بلا تهويل ولا تهوين ؟ هل تركنا بصمات في أي جانب من جوانب حياتنا مهما كانت متواضعة ؟ هل حدد كل منا هدفا ساميا ونبيلا ، ونجح في تحقيقه ؟ هل أجرينا جرد حساب شجاع وشفاف للربح والخسارة والنجاح والإخفاق ؟ هل استثمرنا الطاقات الكامنة في نفوسنا بعد أن اكتشفناها في رمضان من أجل تعزيز الثقافة الإيجابية البناءة في حياتنا ؟ ليس من الحكمة ولا من العقل أن ندع الآفات تفتك بما نحققه من تقدم في كل عبادة نؤديها لربنا صادقين مخلصين ومخبتين ، ثم سرعان ما تخبو أنوارها ويخفت ضياؤها ويزول أثرها ، فلا تتجاوز أوضاعنا ما قيل : " مكانك عد " …. بدأ رحلتنا مع رمضان ، هذا الشهر العظيم المبارك الذي أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار … فواجب علىكل مسلم ومسلمة منَّ الله عليه ببلوغ شهر رمضان ، أن يغتنم الفرصة ، ويقطف الثمرة ،فإن في فواتها حسرة وندامة … إنه رمضان الذي وصفه الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم مرحبا ( بسيد الشهور … ) …وبشر الأمة بقدومه ، فقال : ( أتاكم شهررمضان ، شهر بركة ، يغشاكم الله فيه برحمته ، ويحط الخطايا ، ويستجيب الدعاء ، ينظرالله إلى تنافسكم فيه ، ويباهي بكم ملائكته ، فأروا الله من أنفسكم خيراً ، فإنالشقي من حرم رحمة الله ) … شهر رمضان دورة سنوية نقوي فيها الروح والتي هي سر الله في عبده ، ونقوي فيها الإرادة وهي أساس المكرمات والداعية إلى الفضائل ومكارم الأخلاق ، والمحركة لكل عمل ايجابي والمحرضة على كل تغيير ضروري ، ونحرر فيه الوعي من كل أثر للشهوة العابرة والنزوة العابثة والنوازع الهابطة …. رمضان ورشة عمل اجتماعية تُعَرِّفُنا بنعمة الله علينا في الصباح وفي المساء ، وتذكرنا بأوضاع الملايين من الأمة الذين حرمهم ظلم الأعداء والأشقاء من كرامة الإنسان … رمضان انتساب إلى الله تعالى وجواز عبور إلى محبته ورضاه ، وهو العبادة السرية التي جعل الله ثوابها من جنسها سرّا بينه وبين عبده ،لا يطْلِعُهُ عليه إلا عند اللقاء به يوم القيامة … إنها الفرحة التي اختزنها الله للصائمين … فللصائم كما نعرف فرحتان : الأولى عند فطره ، والأخرى عند لقاء ربه ، ووالله إن الثانية لأحب إلى قلب المؤمن من الأولى وفي كل خير …. الصيام نقلة نوعية يعبر بها المؤمن من عالم إلى عالم ، ويحلق فيها من فضاء إلى فضاء ، يطلع فيها على روحه وأحوالها ، وقلبه وأوضاعه ، ونفسه ودواعيها … ينتقل من عالم الظلمة إلى عالم الأنوار ، ويطل على عالم الملكوت والأسرار … فهو بهذا ليس عبادة بدنية وحسب ، وإن كان الامتناع عن الطعام والشراب والمفطرات من شروق الشمس إلى غروبها من فرائضه ، وإنما هو عبادة للجوارح عن كل محرم ، وصيام للقلب عن كل ما سوى الله … بهذه المعاني يصبح للصيام معنى ويكون له أثره في حياة الأمة … وإلا ( فمن لم يدع قول الزور والعمل به ، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) ….. ما أحوج الأمة لمعاني رمضان الثورية وهي تخوض نضالها غير المسبوق لتغيير واقعها التي أثقل كاهلها لعقود طويلة ، تلتقي في ظلالها أرواح وقلوب الملايين في بلاد العرب والمسلمين من المحيط إلى المحيط ، متشوفة إلى لحظة يُتِمُّ الله فيها نعمته عليها كما أتمها على السابقين بالخيرات … عندها سيعود البيان الرباني لينشده الملايين احتفاء بالنصر والتمكين ، مصداقا لقوله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينا . ) ، ولقوله : ( قل جاء الحق وزهق الباطل ، إن الباطل كان زهوقا . ) ….. رمضان فرصتنا السانحة لبرمجة حياتنا بما يتفق مع نور قرآننا وهدي نبينا ، فطوبى لمن وفقه الله تعالى فجعل برنامجه في رمضان برنامج حياة لا يحيد عنه ، فيحظى بالبركة من الله والتوفيق والسداد والأمن والأمان ( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ) ….