لو كان لنا أن نقدم توصيفا جامعا مانعا لما جرى ويجري في المغرب، طيلة الأسابيع الأولى من موسم الصيف هذا، فسنقول التالي: إن الذي تشي به بعض وقائع الشأن الجاري، إنما نزوع بعض من المغاربة (ومن الأغيار أيضا) إلى تحويل الميوعة إلى "قيمة" اعتبارية كبرى، تقاس على محرابها كل ضروب الفعل الثقافي والفني (والسياسي أيضا)، فيما لا قيمة تذكر لما سواها. -1- الميوعة هنا لا تحيل على مضمون قدحي سالب، ولا على موقف مضمر لحكم قيمة، قد يصنف صاحبه ضمن هذه الخانة أو تلك. إنه مجال فعل وفضاء اشتغال، بل إنه أضحى منظومة قائمة الذات، في غياب مجال الفعل النقيض وفضاء الاشتغال المناهض. والميوعة ليست معطى محددا أو محصورا في واقعة، إنها حالة عامة تخترق كل المجال العام. إنها القاعدة التي لا تشد عنها إلا الحالات الشاردة، النشاز، أعني الحالات التي لا يقاس عليها، أو يبنى للتراكم على أساس استحضارها. يضيق النطاق هنا، لاستعراض كل الوقائع التي تمتح من هذا التصور. ويضيق أكثر لو كان لنا أن نستعرض خلفيات الثاوين وراء هذه الوقائع، أو الدافعين بها تحت هذا المسوغ أو ذاك. حسبنا هنا التوقف عند ثلاث وقائع كبرى، جرت أطوارها مؤخرا، وكان لها بعض من النصيب في الرفع من منسوب الميوعة القائم من بين أضلعنا: - الواقعة الأولى وتتعلق بالتسريب الذي طال بعض مقاطع فيلم "الزين اللي فيك" للمخرج المغربي/الفرنسي نبيل عيوش، والذي شارف، في لقطاته وخشونة اللهجة المستعملة فيه، أن يكون فيلما في البورنوغرافيا بامتياز. هو فيلم عرض بمهرجان "كان" الأخير ضمن خانة "الأفلام خارج المسابقة"، ولم تسمح له الحكومة المغربية بالعرض في القاعات السينمائية، لكن أجزاء معبرة منه سربت بأقراص مدمجة، أو تم تداولها على مستوى مواقع الإنترنت، فكانت خلف ردود فعل عنيفة، شارفت على التصادم المباشر أحيانا، بين من يرى في الفيلم تحاملا خطيرا على القيم المغربية الأصيلة، وعلى رمزية المرأة ضمن هذه القيم، وبين من يرى فيه عملا لا يخرج كثيرا عن كونه صوّر واقعا قائما، واقع الدعارة، والاستباحة السائدة لجسد المرأة وكرامتها. هو تعارض جوهري حقا، بين من يعترف بوجود الظاهرة، لكنه لا يرى من فائدة في عكسها بالكلمة والصوت والصورة، وبين من يعترف بوجودها أيضا، ويدعي أنه يجب العمل على فضحها والتشهير بممارسيها، وإخراجها من نطاق المسكوت عنه. - الواقعة الثانية -أياما فقط على تسريبات فيلم "الزين اللي فيك"- تتمثل في نقل القناة التلفزيونية العمومية الثانية للحفل الصاخب الذي أحيته المغنية الأميركية جنيفر لوبيز، في إطار مهرجان موازين السنوي الرسمي، وهي "مزهوة" (تماما كالفرقة المصاحبة لها) بملابس استعراضية فاضحة، مصحوبة بإيحاءات جنسية واضحة، وبحركات إباحية لا يمكن لعين الملاحظ المتوسط أن تزيغ عنها. بموازاة ذلك، فوجئ متتبعو قناة البحر الأبيض المتوسط التلفزيونية (والعمومية أيضا) وهي تغطي بالمباشر الحي، لأحد أطوار ذات المهرجان، بأحد أعضاء فرقة "بلاسيبو" وهو ينزع قميصه من على المنصة، وقد كتب على صدره الرقم 489 (فيما تحمل غيتارته ألوان الشذوذ العالمي)، في إشارة مباشرة إلى الفصل 489 من القانون الجنائي المغربي، الذي ينص على محاكمة من يضبط في وضعية شاذة، ومتابعته بعقوبة قد تصل إلى ثلاث سنوات سجنا، وغرامة مالية مرتفعة. بهاتين الحالتين، يبدو (كما بالواقعة الأولى) أن "التحامل" لم يطل سلوك هذين المغنيين، بقدر ما طال إقدام القناتين العموميتين على نقل أطوار الحفلين، واستفزاز ملايين المغاربة في عقر دارهم، دون إعارة أدنى اعتبار لحميمياتهم وخصوصياتهم. - أما الواقعة الثالثة فتتمثل في إقدام شابتين فرنسيتين على التعري علانية، وتقبيل بعضهما بعضا وهن شبه عاريات، في حضرة ساحة صومعة حسان في الرباط، على مقربة من مسجد الساحة إياها، وعلى بعد أمتار فقط من الضريح الذي يضم قبرا محمد الخامس والحسن الثاني، جد وأب الملك محمد السادس. بهذه الواقعة أيضا، يبدو أن التجاذبات التي ارتفع صبيبها واشتد، تمت بين طرفين نقيضين: طرف الفتاتين اللتين ادعتا أنهما تظاهرتا سلميا للدفاع عن حقوق الشواذ جنسيا، وطرف الدولة والمجتمع اللذين رأيا في سلوك الفتاتين خدشا للحياء العام، وتجاوزا للمساطر والقوانين الجاري بها العمل. -2- هي وقائع ثلاث مختلفة، لكنها تمتح مجتمعة من واقع "ثقافة" تمييع القائم من قيم، وتطويع المتلقي للقبول بها والتعامل معها، أو على الأقل زعزعة مضمونها في أفق استنبات "قيم جديدة" تعوضها بهذا الشكل أو ذاك: - ففيلم "الزين اللي فيك" لا يتعرض لظاهرة الدعارة بالمغرب بعيون الفنان الذي يريد أن يرقى بالمعالجة إلى مستواها الدرامي الجمالي المحبوك، بل تعامل معها كمعطى خام في لغة أهل الاقتصاد، نقله من واقعه المادي الصرف إلى شاشة العرض، في صيغة هي أقرب إلى العمل الفوتوغرافي والتصويري الصرف، منها إلى التناول السينمائي الراقي. الدعارة بالمغرب عالم قائم الذات، له أحياؤه (الراقي منها كما المتردي) وله قاموسه الدلالي وله ظروفه وملابساته، ويمتح من معين سيمته الفقر والهشاشة الاجتماعية، وحالة الفساد القيمي التي لا تتوانى في جرف الأخضر واليابس. هذا أمر معروف ومتداول، وتعرضت له بحوث علم الاجتماع والتحقيقات الميدانية للمتخصصة. لذلك، فإن الفيلم إياه لم يقدم إضافة تذكر لما نعرف ويعرف غيرنا، ولم يأت بأية قيمة مضافة تتجاوز على الملاحظة المجردة، لتنفذ إلى النظرة الفنية التي من شأنها تسليط الضوء على المجهول والمظلم في الظاهرة. ليس صحيحا القول بأن فيلم "الزين اللي فيك" يمتح من سينما الواقع، ليقدم صورة عن هذا الأخير كما هي لا كما يريد لها المتلقي أن تكون. وليس صحيحا أن "المعالجة" بالصدمات هي الأنجع، إذا لم يكن للقضاء على الظاهرة إياها، فعلى الأقل للتحسيس بخطورتها وتبعاتها. بيد أن تقديم المغرب في صورة بلد الدعارة والعهارة، وقد باتت نساؤه مستباحة العرض والكرامة من لدن هذا الوافد الأجنبي أو ذاك، مقابل بعض من المال، هو قول تنقصه الوجاهة كثيرا، لكن نقطة ضعفه القاتلة أن المخرج لم يدرك أنه يشتغل في محيط محافظ، لا يزال الناس من بين ظهرانيه متشبثين بمنظومة قيم محافظة، حتى في اختلاف البعض مع طبيعتها. وأستطيع أن أجزم هنا بأن ردود الفعل المناهضة لهذا الفيلم، إنما تأتت من إحساس الناس بأن منظومة قيمهم قد أضحت مستهانة ومستهدفة على خلفية من هذا الاجتهاد الزائد أو ذاك. ولذلك، فأنا لم أتردد في تأييد قرار منعه من العرض بالقاعات السينمائية، لا بل ينتابني الحنين إلى بعض من الرقابة على مثل هذه الأعمال.. أليس بمصر، "أم السينما العربية"، هيئة للرقابة على المصنفات الفنية؟ - أما حفل المغنية الأميركية، فهو لم يسهم فقط في إعادة النقاش الحاد بين المدافعين عن مهرجان موازين والمناهضين له، بل ثوى خلف جدل "جديد" لا يقل حدة عن الأول، محوره خلفيات بث القناة التلفزيونية الثانية لحفل العري والإباحية الذي أثثته المغنية إياها بالمباشر الحي، قبلما تعمد ذات القناة إلى تمريره في ساعة الذروة، حيث العائلات المغربية مجتمعة ومتحلقة حول الشاشة الصغيرة. إن مناهضتنا لهذا المهرجان ليست وليدة هذه الدورة، بل رفعنا لواءها منذ الدورة الأولى، وطالبنا جهارا بأن يعاد النظر جذريا في التوقيت وفي طبيعة الضيوف، وإلا فسنكون كمن يؤجج الفتنة موسما عن موسم. وهو ما أثبتته الوقائع، إذ بتنا إزاء تراكم للميوعة ثم للاحتقان سنة بعد سنة، وبتنا نتحسس قلوبنا كلما اقترب موعد المهرجان وأقدم. أما نقل القناة الثانية لحفل المغنية الأميركية، فلا يبدو لنا خارجا عن سياق إحراج رئيس الحكومة المناهض لذات المهرجان، لكنها (القناة أعني) تدرك ألا سلطة مباشرة له عليها، ولا حيلة من بين يديه لمحاسبة القائمين عليها أو معاقبتهم. وكذلك كان، إذ اكتفى رئيس الحكومة بالاحتجاج والاستنكار شأنه في ذلك شأن باقي المواطنين، وعندما استشاط غضبا، بعث برسالة للهيئة (الهيئة العليا للاتصال السمعي/البصري الموات) "لاتخاذ اللازم". إن سلوك القائمين على القناة التلفزيونية الثانية لا يحيل فقط على مسألة الاستهتار بمنظومة قيم المغاربة، والضرب بها عرض الحائط، بل يحيل أيضا على إشكالية نزوعها للدفع بالتطبيع مع ممارسات لا تتماهى مع طبيعة القيم القائمة من بين ظهرانيها. - لا يختلف التحليل كثيرا في واقعة ما أقدمت عليه "مثليتي صومعة حسان" و"مثلي قناة البحر الأبيض المتوسط". إنهما حالتان تنهلان من نفس المعين: معين المطالبة بالتطبيع مع الشذوذ، وحذف بنود القانون الجنائي "السالبة لحرية الشواذ" بالجملة والتفصيل. إن المثلية والشذوذ أمران دخيلان على منظومة القيم المغربية، بل إن الدين الإسلامي قد تبرأ منهما ودعا إلى اجتنابهما لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به". الحديث النبوي هنا استباقي ووقائي، وله فضلا عن ذلك، شروط في الإثبات قبل إنزال العقوبة. ليكن الأمر واضحا بهذه النقطة. بالتالي، فإن النبتة التي أراد الشواذ زرعها، بظل وعلى هامش مهرجان موازين، لا يمكن أن تقوم أو تستقيم إلا إذا تم تغيير التربة تماما، بإزاحة المتجذر من قيم، ووضع "القيم الجديدة" مكانها.. وهذا لعمري ما لا يمكن لعقل أن يستسيغه، فما بالك أن يقبل به. -3- سيتحامل علينا "الحداثيون" دون شك، وسيرجمنا "المتفتحون"، وسيتطاول علينا مناهضو التشبث بالقيم "البالية". وقد لا يتفق معنا البعض في تبنينا لقرار منع فيلم "الزين اللي فيك"، أو قرار ترحيل "فتاتي صومعة حسان"، بل قد يزايد علينا البعض مناهضتنا لمهرجان موازين الذي تفاخر منظموه في اختتام الدورة الحالية بإقبال أكثر من مليونين ونصف المليون من المرتادين لحفلات منصاته المنتشرة بأرجاء العاصمة. سنسمع دون شك بعضا من هذا وذاك، من هنا ومن هناك. بيد أن الذي لا بد من التركيز عليه إنما اعتقادنا بأن ثمة حدا أدنى في الاحتكام إلى القوانين والالتزام بالقيم الأخلاقية، في النزول دونها ستشتعل الفتنة لا محالة، وتتأجج الاحتقانات ثم الاحترابات. إن المسألة، فيما عرضناه من وقائع، لا تتعلق بالحرية أو بحق الأفراد في التفكير والتعبير. إنها تتعلق باستفزاز قيم متجذرة، جزء كبير منها ديني مقدس، وجزء آخر متعارف على كونه ضامنا للعيش المشترك، وجزء ثالث متوافق بشأنه باعتباره خطا أحمر لا يجوز تجاوزه. لو تسنى لنا التسليم بالمسألة أعلاه، فسيتسنى لنا التسليم حتما بأن أطروحة "كونية القيم" إنما هي من تلك الأطروحات التي تتخفى خلف الحق، لكنها تضمر في ثناياها الباطل.. كل الباطل