الأخلاق بين مصدرية الغيب وعالم الشهادة الإشكال الأخلاقي في عصرنا يؤول إلى السؤال عما يؤسس الأخلاق؛ الغيب أم الشهادة، أي هل نرجع الأفعال البشرية إلى أسباب نهائية ماثلة فيه مشهودة أم نرجعها إلى أسباب غيبية مصدرها الروح و الروح من أمر ربي، ولا شك أن الإنسان منذ بدء اكتشافاته الكبرى إلى الآن ينطلق من فلسفة تتمحل في اختزال الإنسان بالبحث عن أجزائه النهائية، وماذا سيبقى من الإنسان إن تحقق ذلك إن صورة ظاهرة أو باطنة؟، ويتوالى تشبث الإنسان بعروة من العرى كلما انتقضت تمسك بغيرها، وكانت البداية من الله وهاهو ينتقض قيمة العقل التي بنى عليها عصور أنواره، ولكن بعدما حدث ما حدث من استغلال لن يكون مصدره إلا الشيطان للإمكانات العلمية لتدمير الطبيعة والإنسان، يعود أحيانا للتشبث بإحدى العرى القديمة، وما يدرينا لعل زمن عودته للتشبث بعروة الله الوثقى قريب. بداية الاعتبار لقد أخذ الإنسان في ما أخذ من العبر عبرة مفادها أنه في حاجة ضرورية إلى أن يكف عما هو بصدده من التجارب على نفسه وعلى الطبيعة بلا حكمة، أدرك الإنسان بأنه ينتهي إلى عواقب تضر به؛ و لقد بدأت عواقب أفعاله تظهر في مشاكل بيئية سيكون هو ضحيتها؛ لقد انكشفت له حقيقة من حقائقه وهو أنه جزء لا يتجزأ من الطبيعة فهو والنبات والحيوان والحجر والهواء كل، والكل إن اختل عاد الخلل على الجميع بالمفسدة الكبرى، وقد انفتحت للإنسان إمكانات لاكتشاف سنن الطبيعة؛ استثمر بعضها لأغراضه المعيشية والبعض الآخر لإبادة أخيه الإنسان؛ وفي الوقت ذاته جعل نفسه هو الآخر موضوعا للتجربة، ووسع من طموحاته لاكتشاف أسراره النهائية، فبلغ به الأمر إلى أن يكتشف الشفرة الجينية، وهو الآن يضع غاية من غاياته أن يكتشف أسرار الروح والعقل والوعي هذا هو الإنسان في الزمن الذي سمي حديثا، يعبد له الطريق فيسرع فيه بسرعة قد تقتله؛ لقد توفرت للإنسان وسائل هائلة للتنقيب والبحث تزداد قوة على قوة وهو يتجه بتنقيبه إلى حيث يشاء ولكن تفطن يوم أبصر الهاوية التي تنتظره، وبدأ يتردد يوم اكتشف أن قدرته على الكشف بحق لا حدود لها ولكن استرساله في هذا الكشف بلا مراقبة فوقية سيدمر عليه نفسه وبيته، فليس للإنسان كونين كون سيقيم فيه اختباراته المجنونة، وكون سيعيش فيه؛ إن الكون الذي يقيم فيه اختباراته تلك، هو الكون الذي يعيش فيه. بدء الاهتمام بالأخلاق وبدأ الحديث عن الأخلاق أكثر من أي زمن مضى، فصار الحديث اليوم عن أخلاق الطب وأخلاق العلم، وظهرت لجن للأخلاق جعلت من غاياتها مراقبة الاختبار العلمي أخلاقيا وهي لجن تتكون من علماء وفلاسفة ورجال دين وآخرين. وقد أثيرت القضية الأخلاقية خاصة بعد تجربة الاستنساخ، وتتجلى خطورته بجعل الإنسان مجالا للاختبار فيه، وحتى الأغراض العملية التي من أجلها يمكن أن يفيد باستنساخ أعضاء أجنة تجهض قبل اكتمالها، تضع الكرامة الإنسانية في خطر. إن اللجوء إلى الأخلاق اعتراف من الإنسان بحاجته إلى قيم تتجاوزه وتتعالى عليه كالكرامة الإنسانية التي باسمها منع استنساخ الإنسان. نظريات فلسفية تؤسس الأخلاق على متعاليات وقد ظهرت نظريات فلسفية دعت إحداها إلى تحمل المسؤولية نحو الطبيعة " بإقامة ميثاق بيننا وبينها كما أقمنا ميثاقا من قبل بيننا وبين المجتمع، ميثاقا نتحمل فيه مسؤوليتنا كاملة إزاء وجودها باعتبار هذا الوجود موضوعا متمتعا بمشروعية قانونية تضاهي، إن لم يتجاوز مشروعية وجود المجتمع". ودعت الأخرى إلى تأسيس أخلاقيات:" تشترك في وضعها كل أمم الأرض على اختلاف ثقافاتها وعاداتها" هذه الأخلاقيات التي سيكون لها شرف مراقبة الاختبار العلمي؛ إلا أن هذه النظريات رغم دعوتها في الحكم الأخلاقي للرجوع إلى مبادئ متعالية، تتمسك بحبل واه ضعيف لأن تلك المبادئ واهية، ولن تصمد مع الزمان، فهي تصدر من بشر يسهل الإعراض عنه. إن المبادئ الأخلاقية التي وجب الركون إليها هي التي تضرب بجذورها في حقيقة الخلق، وهي التي ترى أن الإنسان مخلوق لا يمكن اختزال أفعاله في أسباب مادية، ففي الإنسان غيب وشهادة والغائب أكبر من المشهود دائما. خطورة النزعة المثولية إن النظريات السابقة أهون مما يدعو إليه أصحاب النزعة المثولية، وهو أن تصبح الأخلاق التي يريد أن يستعين بها الإنسان لضبط سلوكاته الاختبارية هي ذاتها خاضعة للاختبار. إن الفلسفة التي انطلق منها هؤلاء هي الرؤية المثولية التي تجعل الباحث يقتصر في بحثه على أسباب ماثلة في الشيء، فمن داخل الشيء تستخرج أسبابه، وهي من الناحية العملية مثمرة جدا ولكن أن يبلغ الأمر بالإنسان إلى أن يصير ذلك منهجا شاملا حتى يتمحل في البحث عن التأسيس النهائي للأخلاق والبحث عن سر الحياة والروح فهذا ما سيؤدي إلى تدنيسه لكل شيء، فسيصبح كل شيء مباحا، وما نراه الآن من تدنيس للأسرة بداية الطريق. وما يدرينا فتمحل الإنسان في الكشف عن سر الحياة سيجعله يعبث بخلقه وخلقه أشد مما يفعل الآن، إن اكتشاف القانون شيء واستثماره وتوظيفه شيء آخر. الحاجة إلى أخلاق مؤسسة على الغيب نحن في أمس الحاجة إلى تأسيس جديد للأخلاق، وهل نحتاج إلى تأسيس لها وهي مؤسسة قبلا على الغيب؟ يقول د. طه عبد الرحمان مفسرا السبب في اضطراب المفاهيم الأخلاقية " فنقول بأن السبب في اضطراب المفاهيم الأخلاقية يرجع إلى كون الفلاسفة غلب عليهم الاشتغال بها دون ردها إلى المجال الحقيقي الذي تنتسب إليه، بحيث بقيت في تعاملهم معها متزلزلة لا تثبت في معانيها ومتأرجحة لا يستقر بها قرار ومتذبذبة لا تقيم على حال؛ وليس هذا المجال المنسي الذي بدونه لا تسكن هذه المفاهيم ولا تثبت ولا تتمكن إلا مجال "الدينيات " والدينيات هي المجال الذي يجمع إلى عنصر الإنسانيات" وعنصر "المعنويات" عنصرا ثالثا هو "الغيبيات"" إن الإيمان بالغيب سيجعلنا لا نكشف شيئا من الأشياء إلا مؤمنين بأن وراء ما كشفنا غيوبا لا يعلمها إلا الله، وهذا سيؤدي لا محالة إلى التخلق بخلق التواضع أمام ما يتجاوز الإنسان، ولن يكون التعبير عن ذلك إلا حمد وشكر المنعم والصلاة له ومتى كشفنا أمرا في الآفاق والأنفس، هل سنصرفه في الطغيان على الخلق حيوانا كان أو إنسانا وقد ائتمنا على الجميع؟ لن يصرف الحامد الشاكر ما كشف عنه إلا لصالح الإنسانية ولن ينسى الإحسان إلى البهائم العجماء هذه التي إذا تكلمت أخبرت عن عظم الشر الذي أصابها. توفيق فائزي