العصبة الإحترافية تحدد موعد "ديربي البيضاء"    اغتيال المسؤول الإعلامي ل"حزب الله"    دنماركية تفوز بمسابقة "ملكة جمال الكون" 2024    عدد مرافق الدولة المسيرة بصورة مستقلة يبلغ 171 مرفقا    عيد الاستقلال.. ملحمة الكفاح الوطني ووحدة العرش والشعب    المنتخب المغربي يعزز خياراته الهجومية بعودة سفيان رحيمي    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    الاعلان الرسمي عن افتتاح ملعب الحسيمة الكبير بايت قمرة    تجار القرب يعلنون تكتلهم لمواجهة توغل الشركات الكبرى بالأحياء السكنية    رفض نقابي يصاحب مصادقة الحكومة على قوانين اجتماعية ومطالب بالتراجع عن دمج "CNOPS" في "CNSS"    حقوقيون ينبهون إلى أن مشروع قانون المالية يعمق واقع الهشاشة والإقصاء ويستنكرون استمرار التضييق على الحريات    الدرهم المغربي يرتفع أمام الأورو بنسبة 1,47%    مسابقة فريدة للأطفال الرضع بالصويرة    قلة الأطباء والأَسرّة وطول المواعيد.. وزير الصحة يؤكد أن خدمات الطب النفسي بالمغرب تبقى أقل من المطلوب    دراسة علمية: فيتامين "د" يقلل ضغط الدم لدى مرضى السمنة    حقوقيون يستنكرون استمرار تعليق رواتب 18 أستاذا رغم الأحكام القضائية    احباط تهريب 188 ألف قرص مهلوس بميناء طنجة المتوسط    تدشينات بإقليم سيدي قاسم بمناسبة ذكرى عيد الاستقلال    بير أوباميانغ يؤكد : الحقيقة لقد واجهنا منتخبا مستواه بعيد كثيرا عن باقي المنتخبات الافريقية    عبد الحميد أبرشان يرشح نفسه لرئاسة مقاطعة طنجة المدينة    موعد مباراة المغرب ضد ليسوتو بالتصفيات الأفريقية والقنوات الناقلة    المغرب يطلق أول مصنع لإنتاج بطاريات السيارات الكهربائية باستثمار 1.3 مليار دولار    إسبانيا تطلق برنامجًا جديدًا لعقود العمل الموسمية 2025    بعد الانتصار على الغابون.. المنتخب المغربي يضيف لرصيده 5 نقاط ويقترب من المركز 12 عالميا    المغرب يرسل قافلة مساعدات ثانية إلى فالينسيا لإزالة مخلفات الفيضانات    التهراوي: هامش ربح الصيدلي والموزع محدد أساسي لأسعار الأدوية في المغرب    أياكس الهولندي يستعيد شعاره الكلاسيكي بعد غياب 34 عاما    ارتفاع حصيلة الحرب في قطاع غزة    جوليا نشيوات.. من ضابطة استخبارات إلى مستشارة للأمن الداخلي في إدارة ترامب    إطلاق قنبلتين ضوئيتين قرب منزل نتانياهو    الولايات المتحدة.. تعيين كريس رايت وزيرا للطاقة في إدارة ترامب الجديدة    لفتيت يدعو لمواجهة فوضى وتجاوزات وتدني خدمات سيارات الأجرة على خلفية وضع نهج جديد    صراعات عائلة السيوفي في الدراما الجديدة المُثيرة "نقطة سودة" يومياً عبر شاشة "5MBC"    "ذا تيليغراف": المغرب الوجهة السياحية الأولى في إفريقيا لعام 2024    عمور و السعدي يقصان شريط النسخة السابعة لمهرجان الزربية الواوزكيتية        بيع هيكل ديناصور عملاق بستة ملايين يورو قرب باريس    مراهقون يعبثون بالأمن الطرقي بواسطة دراجات نارية مستأجرة في شوارع طنجة    ترامب يعين "كارولين ليفيت" متحدثة باسم البيت الأبيض في إدارته الجديدة    لقاء بالداخلة يناقش مبادرة الحكم الذاتي    مقتل 65 فلسطينيا في قصف إسرائيلي    جمعية فنون تقدم أحدث إعمالها الفنية و التراثية أغنية " لالة منانة" من أداء المجموعة الموسيقية لأكاديمية ميزينوكس    أكبر الشركات العالمية تواصل إبداء اهتمامها بالطريق السيار الكهربائي الداخلة-الدار البيضاء    ندوة حول موضوع الفلسفة والحرب: مآزق العيش المشترك    انعقاد الاجتماع الإقليمي للمدن المبدعة لليونيسكو بتطوان من 19 إلى 22 نونبر الجاري    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    تراجع طفيف في ثمن البنزين في محطات الوقود    تعهدات في مؤتمر وزاري في جدة بمقاومة مضادات الميكروبات بحلول عام 2030 (فيديو)    جائزة المغرب للشباب تحتفي بالتميز    المرتجي: التراث اللامادي بين المغرب وهولندا أفق جديد للتعاون الثقافي    حشرات في غيبوبة .. "فطر شرير" يسيطر على الذباب    دراسة تكشف العلاقة بين الحر وأمراض القلب    "باحة الاستراحة".. برنامج كوميدي يجمع بين الضحك والتوعية    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    ارتفاع كبير في الإصابات بالحصبة حول العالم في 2023    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحرب الأولى: آلام الحرب وأعباؤها في المجال العثماني
نشر في التجديد يوم 23 - 02 - 2015

للحروب أعباء ثقيلة الوطأة، ليس على المقاتلين وحسب، ولكن على الشعوب أيضاً. وعندما تكون الحرب بحجم الحرب العالمية الأولى، تصبح الأعباء أفدح وأثقل وطأة. وقد تركت سنوات الحرب الأربع أثراً بالغاً على الشعوب العثمانية، وحملتها أكثر من قدرتها على الاحتمال. وربما كانت أعباء الحرب وعدالة توزيعها على شعوب السلطنة واحدة من أكبر الأساطير التي ارتبطت بالتاريخ العربي للحرب، سواء التاريخ الرسمي للدول العربية القومية، أو التاريخ غير الرسمي، الذي روجت له أعمال مسرحية وأشرطة الدراما المرئية. عانت مناطق عربية خلال سنوات الحرب من المجاعة والمرض، بفعل حاجات الجيش العثماني المتزايدة للمؤن، وتكريس الجهود الطبية لخدمة الجيش، والهجرات المتلاحقة؛ ولأن أعداداً كبيرة من شبان بلاد الشام والعراق جندت في الجيش العثماني، تراجعت معدلات الإنتاج الزراعي والحرفي؛ كما أن اتساع نطاق الحرب إلى البحار تسبب في اضطراب حركة التجارة والحج، وكساد الموانىء العربية الرئيسية على البحرين المتوسط والأحمر. في بلاد الشام، خلدت آلام الحرب ومعاناتها بما يعرف شعبياً بسفربرلك، التي باتت تعني جملة من الأشياء معاً، من ذهاب الآباء والأبناء إلى الحرب وغيبتهم الطويلة، أو عدم عودتهم، إلى تفاقم حاجات الأهالي لأوليات المعاش ومقدرات الحياة.
ولأن كل القوميات تولد وهي تستبطن خارجها وخصمها وعدوها، وأن الحقبة العثمانية استخدمت لفترة طويلة كمادة لتعزيز الوعي القومي العربي، فقد صور التاريخ العربي أعباء الحرب الأولى باعتبارها مظهراً آخر للتمييز التركي ضد العرب، وبالغ كتابه إلى حد كبير في النصيب الذي تحمله العرب من هذه الأعباء. الحقيقة، بالطبع، أن معاناة الولايات الناطقة بالعربية لا تقاس بحجم معاناة الولايات الناطقة بالتركية، لا على مستوى الجهد العسكري، ولا ما تعلق بما فرضته الحرب على السكان من أعباء.
بالرغم من أن الإحصاءات السكانية لم تكن بعد على مستوى متقدم من الدقة، فإن أغلب التقديرات تشير إلى أن تعداد سكان السلطة عشية اندلاع الحرب بلغ 11 مليوناً من المواطنين العثمانيين، نصفهم تقريباً من العرب والنصف الآخر من الأتراك والأكراد. وقد استطاعت السلطنة وضع مليون من مواطنيها تحت السلاح خلال سنوات الحرب الأربع، ثلثهم من العرب. هذا، بالطبع، مع ضرورة عدم إهمال الجماعات الإثنية الأصغر، مثل الشركس، الذين ساهموا مساهمة بارزة في جهد السلطنة العسكري، سواء في جبهات سيناء والشام والعراق، أو جبهات الأناضول والرومللي. والسبب خلف نصيب الولايات العربية الأصغر في الجهد العسكري أن الجيش العثماني الحديث، الذي اعتمد منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر على تطوع المواطنين أو تجنيدهم، تكون في اسطنبول وولايات الأغلبية التركية أصلاً، مما أسس لميراث عسكري أكبر في هذه الولايات. ولأن أكثر المعارك شراسة ودموية وقعت في ولايات الأغلبية التركية والكردية في شمال شرق الأناضول وشبه جزيرة غاليبولي، فقد أوقعت الحرب بالأهالي من سكان هذه المناطق خسائر بالغة، بما في ذلك التهجير والموت قصفاً ومرضاً وجوعاً. وليس ثمة شك أن المأساة الأرمنية، التي بدأت بقرار تهجير المواطنين الأرمن من الولايات المحاذية لجبهة القتال مع روسيا، في شتاء 1915، واستمرت لزهاء العام، تعود في جوهرها إلى عدم قدرة الحكومة العثمانية على تنظيم تهجير بهذا الحجم، مما تسبب في موت واسع النطاق من المرض والجوع.
دارت الحرب الأولى في ساحتين رئيسيتين: الجبهة الغربية، وبصورة أساسية على الأراضي الفرنسية والبلجيكية والروسية النمساوية؛ والجبهة الشرقية، في الأناضول وغاليبولي وسيناء وفلسطين والعراق. كل الحملات الأخرى، مثل شرق إفريقيا والقوقاز ووسط أسيا، كانت قصيرة أضيق نطاقاً، وأقل دماراً. هذا فيما يتعلق بالأعباء المباشرة للحرب، أما الأعباء غير المباشرة، فقد تحملتها كل الشعوب المشاركة في تحالفي القتال. ولكن المؤكد أن وطأة الحرب على الشعوب العثمانية، بعمومها، كانت أثقل بكثير؛ وذلك لثلاثة أسباب رئيسية، الأول والثاني منها ظرفيان، والثالث هيكلي. كانت الدولة العثمانية في 1914 لم تستفق بعد من حربي البلقان الأولى والثانية (أكتوبر/ تشرين أول 1912 أغسطس/ آب 1913)، التي لم تستنزف العثمانيين مالياً وعسكرياً وحسب، بل وتسببت في هجرات هائلة لمسلمي الجانب الأوروبي من الدولة، لم تكن الدولة قد انتهت من استيعابهم تماماً عندما اندلعت نيران الحرب العالمية الأولى. من جهة أخرى، ارتكزت بريطانيا، التي قادت الحرب ضد العثمانيين في جبهات غاليبولي وسيناء وفلسطين والعراق، إلى ثقل الإمبراطورية ودول الكمنولث السكاني ومقدراتها، من هنود وأستراليين وكنديين ونيوزيلانديين، وهو ثقل لم يكن باستطاعة العثمانيين معادلته. خفف خروج الروس في نهاية 1917 من الحرب، بعد الثورة الشيوعية، من الأعباء العسكرية التي كان على العثمانيين تحملها، ولكن الحرب في ذلك الوقت كانت تقترب من نهايتها، وأصبح واضحاً أن دول الوسط ستكون الطرف الخاسر، على أية حال، سيما بعد دخول الولايات المتحدة طرفاً إلى جانب الحلفاء.
السبب الثالث كان أعمق أثراً؛ إذ تعتبر الحرب العظمى أولى الحروب الصناعية الكبرى، خاضت غمارها الدول الثلاث الأسبق إلى التصنيع في العالم: بريطانيا وفرنسا وألمانيا. لم ترتكز الحرب إلى الحشد البشري والمثل والإيمان بالحق وحسب، بل وإلى مستوى التقنية والصناعة العسكرية، طرق الأتصال والنقل الكفؤة، ومستوى الخدمات الطبية والصحية الضرورية. في كل هذه المجالات، كانت الدولة العثمانية لم تزل متخلفة بأشواط عن الدول الأوروبية الرئيسية، التي دخلت العصر الصناعي منذ نهاية القرن الثامن عشر، ووفرت لها الإمبراطوريات الاستعمارية فائض ثروة وسوقاً كافية للمضي في مسيرة التطوير الصناعي. أحد أهم الدوافع خلف مشروع التحديث العثماني، الذي أطلق منذ بداية النصف الثاني للقرن التاسع عشر، كان اللحاق بالمستوى الصناعي لأوروبا الغربية. وقد حاول العثمانيون، سواء ببرامج الملكية الزراعية أو سيطرة الدولة على أجزاء متزايدة من القطاع الوقفي، توفير المال الضروري لتحقيق انطلاقة صناعية. ولكن الجهود العثمانية كانت بطيئة، ومتعثرة، ومتأخرة، أثقلتها في النهاية الديون وخسارة الأسواق المحلية لصالح الاختراقات الغربية.
وربما توفر جبهة سيناء فلسطين شاهداً صارخاً على الفارق التقني الصناعي الكبير بين العثمانيين والبريطانيين. ففي نهاية كانون ثاني/يناير 1915، بدأ العثمانيون حملتهم الأولى على قناة السويس، التي أملوا أن تساعدهم فيها المفاجأة، وثورة المصريين على الاحتلال، استجابة لإعلان الجهاد العثماني، على عبور القناة، ومن ثم تحرير مصر من السيطرة البريطانية. ولكن الحسابات العثمانية لم تكن صحيحة؛ فالبريطانيون كانوا على أهبة الاستعداد لرد الهجوم، وتوقعات ثورة المصريين لم تتحق. أستطاعات الدفاعات البريطانية إيقاع خسائر كبيرة في الحملة العثمانية، التي سارعت للارتداد إلى مواقعها السابقة في بير العبد والعريش وجنوب فلسطين. ولم يكن حظ الهجوم العثماني الثاني في تموز/يوليو 1916 بأفضل من الأول. بتعزيز القوات البريطانية في مصر بعشرات الآلاف من الجنود المنسحبين من غاليبولي في كانون ثاني/يناير 1916، بدأت الاستعدادات البريطانية لتعهد حملة عسكرية هجومية، بهدف طرد العثمانيين من شبه جزيرة سيناء.
الفارق بين الجانبين أن القوات العثمانية، التي كان مركزها الرئيسي في غزة وبئر السبع، اعتمدت في حملتها الأولى على السويس على الخيل والجمال ومصادر المياة المحلية الشحيحة في شبة جزيرة سيناء الصحراوية، قليلة السكان، والطقس القاسي. أما البريطانيون فقد سارعوا منذ ربيع 1916 إلى بناء خط سكك حديد من القنطرة وصولاً إلى رفح، على الحدود المصرية العثمانية، وأنبوب لضخ الملايين من غاولونات المياه من نهر النيل. كل تقدم للقوات البريطانية باتجاه غزة لم يكن يسبق خط السكة الحديدية الجديد ولا أنبوب المياه الموازي بأكثر من كيلومترات قليلة؛ وعندما اندلعت معركة غزة الأولى في آذار/مارس 1917، كان البريطانيون قد بنوا 388 ميلاً من السكك الحديدية على طريق الحرير القديم بين القنطرة ورفح، عبر شمال سيناء.
بيد أن الأعباء الثقيلة والخسائر الفادحة لا تعني أن الدولة العثمانية، بشعوبها التركية والعربية والكردية والشركسية، لم تخض الحرب كما يجب. تلقى البريطانيون هزيمة فادحة في شبه جزيرة غاليبولي، خلال مواجهة مستعرة، امتدت من نيسان/ابريل 1915 إلى كانون ثاني/يناير 1916. واحتاج البريطانيون أربع سنوات للتقدم من البصرة إلى الموصل؛ وفي إحدى معارك العراق الرئيسية استسلم جيش بريطاني بأكمله (13 ألفاً من الجنود) للجيش العثماني في كوت العمارة. وبعد سلسلة من المواجهات الدموية في شبه جزيرة سيناء، خلال 1915 1916، أوقفت الدفاعات العثمانية الباسلة الجيش البريطاني من آذار/مارس 1917 إلى تشرين أول/اكتوبر من العام نفسه أمام مدينة غزة، موقعة به خسائر فادحة في معركتي غزة الأولى والثانية. كانت حرباً قاسية وثقيلة الوطأة، انتهت بهزيمة قاسية، بلا شك، ولكن الشعوب العثمانية خاضتها كما ينبغي للأمم أن تحارب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.