التقينا في بيت إحدى المعارف، وكنا نتحدث عن محو الأمية، فأبدت رغبتها في التعلم واستماع الدروس التي كان يلقيها خطيب المسجد.. من كان يعرفها عن قرب لن يظن أنها كانت ستشعر بالندم عن أيام الطيش لكثرة عربدتها في الطرقات وشرب أنواع المسكرات في الليالي الماجنة. إنها (ن . س) امرأة أربعينية العمر، انضافت إلى لائحة التائبات بعدما صنعت مع مثيلاتها أفلام الدعارة والجريمة وسط سواد الليل الذي كان يغلف جدران المدينة، فكانت على موعد مع السجن لشهور عديدة. هوايتي الانتقام من الذكور الذين يحومون حولي ولدت في أسرة بسيطة وكان أبوها يشتغل بالخرازة كحرفة بسيطة يعول بها أسرته والتي تتكون من زوجة و4 فتيات لكن سرعان ما توفي جراء مرض ألم به، فكان لزاما على ن س أن تنزل إلى الميدان وتشتغل لتعول أمها وأخواتها الصغيرات لأنها كانت البنت الكبرى للأسرة، وشاءت المقادير أن تربطها بشاب اتقن تمثيل المحب في حياتها، فانساقت وراءه وكانت هي الضحية في النهاية. تقول "كنت اشتغل في بداية الأمر في محلبة، فتعرفت على عسكري، وتواعدنا على الزواج، وكنت أخرج مرارا برفقته ودامت علاقتنا سنتين إلى ذلك اليوم الذي انتظرته فيه فلم يأت، وعندما سألت عنه أجابوني أنه كان ضمن المجموعة التي انتقلت إلى الصحراء بالحدود». كتمت ن س يأسها ومشاعرها الطافحة بالغضب عن أسرتها، وأقسمت أن تنتقم من كل رجل يقترب منها، فوظفت جسدها الفتي في جلب كل ما تريده من مال وذهب وكسوة من الذكور الذين كانون يحومون حولها أو الذين يسقطون في خيوطها المليئة بالكراهية والتشفي والانتقام والتي كانت تنسجها بإحكام حول أعناقهم. حتى عقد العمل إلى إيطاليا كان مزورا استمرت ن س في حياتها الجديدة والتي اختارتها بمحض إرادتها وسرعان ما ألفت حياة المجون، فانساقت تتفنن في هذه الحرفة والتي أصبحت تدر عليها أموالا كثيرة، وتبقى الأسرة هي حافز آخر ينضاف في تشجيعها لجمع المال لكي تصرف بعضه على أخواتها في الدراسة وبعضه على أمها التي أنهكها المرض والانتقال من مستشفى لآخر، وعندما سألتها عن موقف أسرتها من متاجرتها في الدعارة أجابت «كانت أي تكره ذلك، وتسخط علي أحيانا، أما أخواتي فكن يصمتن أحيانا كثيرة عندما يرون ما أجلبه لهن من ملابس أنيقة وأكل كثير». لكن الحال لم يدم على حاله، فتكبر البنات وتصلن إلى سن الزواج، ولا أحد يريد التقدم لخطبتهن بسبب سمعة ن.س السيئة. كانت الم وبناتها تعرف ذلك جيدا، لكن الأم التي لا حول لها ولا قوة كانت تكتفي بالصراخ وتهديد ن.س بالطرذ إن لم تفاوق الدعارة، وأمام إلحاحها ونظرة الخوات لأختهن الكبرى والتي تغيرت إلى الأسوأ قررت ن.س أن تشتري عقد عمل إلى إيطاليا، وتسافر لتشتغل هناك بعرق جبينها تقلو "اشتريت عقد عمل بمبلغ 300 ألف درهم لكن العقد كان مزورا واع المال والجسد». علمت أختي حياة الدعارة دون أن أشعر وأمام هذا الإفلاس رجعت ن.س إلى حياة الدعارة من جديد ولكن بمدينة أخرى بعيدا عن أعين الم والأخوات، وكما أن الناس معادن، فقد وجدت صديقات السوء اللواتي كن يساعدنها في التخلي عما بقي من مبادئها، ويبرمجن الليالي الحمراء التي تقام كلما سقط ضيف جديد وغني في شباكهن. ولعل أسوأ ما عاشته ن. س زيادة على الحياة الساقطة هو ذلك الكابوس الذي صادفها تلك الليلة التي كانت مدعوة فيها للعشاء إلى فيلا أحد الأغنياء تقول: «دخلت مع صديقاتي، وجلسنا في ركن فاخر نتزين ونستعد لقضاء الليل بكامله، وعند العشاء قدم لنا الغني أصدقاءه وفتاتا شبه عارية، ولكن ما إن لمحتها حتى صعقت من المفاجأة، لأنها كانت أختي المتوسطة!!؟. لم تنس ن.س صورة أختها وقد تجمد الدم في عروقها، فما كان من ن.س إلا أن قبضتها من شعرها وجرتها خلفها خارجة من ذلك المكان الذي لا يطاق، لم تتوقف رجلاها عن المشي حتى وصلت إلى الحافلة التي أوصلتهما إلى البيت وهي تشتم وتتعود أختها بالعقاب الكبير. لما سألت ن.س عن سبب غضبها من تصرف أختها حتى أنها تعد السبب المباشر فيها وصلت إليه لأنها كانت تقتدي بأختها الكبرى وتريد أن تتنعم بالذهب على حد رأيها، فردت بغضب: «أعلم ذلك وأعلم أيضا أن طريق الفساد هو طريق أسود ومتعب، وما عانيته أنا لم أكن أحب أن تعانيه أخواتي من بعدي، كفانا ضحية واحدة». بعد هذه الحادثة ظلت ن.س ملتحمة بأمها أياما لا تخر من المنزل بسبب الاكتئاب الذي أصابها، لكن سرعا ما رجعت إلى الأسرة فرحتها المفقودة لكون البنت الصغرى قد نجحت في امتحان المعلمين، وستصبح معلمج بعد عامين، وهكذا سيمنح الله لهم مصدرا حلالا للرزق، وكأنه ييسر الأسباب ويقيم الحجة، ويعطي الفرصة الكاملة ل ن.س في التراجع عن غيها وتتوب، ولكنها تأبى إلا أن تفارق أسرتها الصغيرة وترجع إلى حياة الدعارة من جديد، ويأبى القدر إلا أن يسلط عليها عقوبة قاسية لعلها تستفيق من سباتها. وكانت ن.س على موعد مع قضبان السجون سجني كان بداية تخلصني من قيد الدعارة في ذلك اليوم الممطر استيقظ الناس عن جريم قتل بشعة، وكانت الضحية امرأة في مقتبل العمر طعنت بسكين في عدة جهات من جسدها، وكأن القاتل أراد أن يشوه معالم الجمال في جسدها تلبية لرغبة مكبوتة في الانتقام، كانت تلك المرأة صديقة ن.س وسرعان ما تم القبض على المتهم، وتبين أنه كان صديقها لسنوات. في هذه الحادثة بالذات عاشت ن.س أياما مرعبة وهي تعد الساعات والدقائق لتخرج من أقفاص السجن والباردة، لأنها اتهمت بجريمة الفساد والتكتم على القاتل، وعندما سألتها عن سبب كتمانها أجابت: «كنت خائفة أن تهم بمساعدته في قتلها» نعم رأىته يفر من النافذة عندما زرتها في الليل وكانت صديقتي متضرجة في دمائها، كنت متأكدة أنه سيقتلها يوما، لأنه كان عصبيا وغيورا، وكان يضربها مرات عديدة، فتقسم على مفارقته، ولكن ما أن يصالحها بهدية حتى ترجع إليه؟!! كانت هذه جريمة قادرة على إحياء نوازع الضمير في عقل ن.س، بل كانت خير درس تعلمت منه أن حياتها في الدعارة ملفوفة بالمخاطر.. وأن المومس امرأة نزلت في سلم الهوان وانعدام الكرامة درجات، إنها لعبة يتسلى بها الذكور وقتا ثم تكون هدفا لسكين قاتل أو فريسة لمرض خبيث، تقول «عندما كنت أشعر بالكآبة، أذهب فاحتسي كؤوسا من الخمر علها تنسيني واقعي، لكنها كانت لا تفعل شيئا، مجرد نسيان مؤقت، ويرجع الاكتئاب مرة أخرى، حتى ذلك اليوم عندما فتحت جهاز التلفاز يوم الجمعة، وكانت كلمات الخطيب تدخل إلى مسامعي، فتبث في قلبي الطمأنينة، وتأخذ بيدي فتدخلني إلى العالم الذي كنت أبحث عنه مرارا، بكيت ذلك اليوم كثيرا فأحسست براحة نفسية قلما كنت أشعر بها، وكانت بداية طريقي للتوبة". وما إن وجدت، ن.س هذا الطريق حتى عضت عليه بالنواجذ لأنها التقت ببغيتها أخيرا التي طالما بحثت عنها في كؤوس الخمر وليالي السهر، فسبحان من جعل في الإنسان فاقة لا يسدها إلا الإقبال عليه، وشعثا لا يلمه إلا فعل أوامره واجتناب نواهيه. عزيزة شفيع