تحولت أزمة دارفور بعد أقل من عام على تفجرها في 2003 إلى القضية رقم 1 في العالم، وصدر بحقها عشرون قراراً أممياً خلال بضع سنوات، رغم عدم صدور قرار واحد حتى حينها بحق حرب جنوب السودان التي استمرت قرابة أربعين عاماً وبلغ ضحاياها أضعاف دارفور. ولم يحدث في تاريخ السودان المستقل أن زار البلاد هذا العدد من كبار المسؤولين في فترة متقاربة كما حدث في صيف عام 2004، حيث كان وزير الخارجية الأمريكي كولن بأول يزاحم أمين عام الأممالمتحدة حول معسكرات دارفور. ولم يتخلف وزراء الدول الأوروبية الكبرى عن الركب. وفي الفترة التي تلت، أعلن زعماء معظم الدول الكبرى تعيين مبعوثين رئاسيين مختصين بأزمة دارفور. وكان بعضها، مثل الصين وروسيا، تقوم بمثل هذا الإجراء لأول مرة. اتساقاً مع هذا، فوضت الأممالمتحدة أكبر بعثة لحفظ السلام في العالم، ورصدت معظم الدول مليارات الدولارات لتمويل عمليات السلام والإغاثة. ولكن اليوم تكاد دارفور تصبح نسياً منسياً، حيث انشغل العالم عنها بكوارث وأزمات لم تعد تحصى، من أوكرانيا واليونان وباريس إلى اليمن وسوريا والعراق، ومن نيجيريا والصومال ومالي إلى باكستان وإيران. ولم يعد هناك متسع في وقت مجلس الأمن ولا فائض في اجندة السياسيين وخزائن الدول الكبرى يخصص لدارفور وأهلها. وهكذا مرت اللحظة. فهل ضاعت الفرصة على دارفور؟ ومن المسؤول؟ لا شك أننا قد شهدنا لحظة تاريخية نادرة نتجت من تشابك ظروف مواتية جعلت، دارفور محور اهتمام عالمي ندر أن تحظى به قضية افريقية. وقد توافق هذا مع حسن النية الذي أبدى تجاه السودان عموماً بعد انجاز اتفاقية السلام الشامل التي رحب بها العالم أجمع، وحالة تحفز دولي لتقديم دعم قوي لإعادة البناء. ولهذا السبب اجتهدت القوى الدولية في إبرام اتفاق سلام أبوجا حتى يكتمل المشهد، وتلحق دارفور بركب السلام، فينصب دعم العالم على دارفور والجنوب خاصة، والسودان عامة لإعادة البناء ودعم السلام. ولكن تلك اللحظة قد مضت، ربما إلى غير رجعة. في حينها، رفضت عدد من الفصائل الدارفورية توقيع الاتفاق، ثم دعوات متكررة للحوار من قبل الأممالمتحدة والاتحاد الافريقي، مما أبقى دارفور خارج مسيرة السلام المدعومة دولياً. عانت الحركات بعد ذلك من التشظي والانشقاقات والاقتتال الداخلي، مما أحبط المشفقين والناشطين ودعاة السلام. ورغم أن وهج قضية دارفور استمر لبعض الوقت على المستوى الدولي، إلا أن الرواية الأساسية التي استند عليها حول تمايز طرفين، أحدهما الشر المطلق والآخر الضحية المجردة، تهاوت بسبب استمرار الاقتتال الداخلي وتجاوزات الحركة وعدم وجود طرف متفق عليه يمثل أهل دارفور ويتحدث باسمهم كما كان الحال بالنسبة للحركة الشعبية في الجنوب. وقد حاولت حركة العدل والمساواة بقيادة د. خليل إبراهيم لعب هذا الدور، ولكن بدون نجاح في توسيع قاعدتها السياسية، وإنما اعتماداً فقط على قدراتها العسكرية، ولم تنجح هذه المساعي. نتيجة لكل هذا تعثرت جهود دعم دارفور، لأن القضية لم يعد لها صاحب. وعانى السودان ككل ومجهودات السلام فيه، لأن الأموال التي رصدت لدعم عملية السلام وجهت في مجملها لدعم قوات حفظ السلام والإغاثة في دارفور. استمرت كذلك العقوبات على السودان بسبب الأزمة، مما ساهم في تعويق عملية بناء السلام والوحدة، وزاد معاناة أهل دارفور. تفاوتت دوافع الأطراف الدارفورية في مواقفها، وكان منها الاغترار بالسند الدولي الكاسح واعتقاد بأن هذا سيشكل عامل ضغط للاستجابة لمطالب الحركات، أو حتى التدخل العسكري. ولم يؤخذ في الاعتبار تعقيدات الاجندات الدولية، وأولوية سلام الجنوب عند القوى الغربية التي ما كانت لتغامر بذلك الاتفاق. لنفس الأسباب، ولتعقيدات الواقع على الأرض، فما كانت دولة لتغامر بتدخل عسكري، ولم تفكر فيه أي منها. ساهمت كذلك أجندات شخصية وحزبية وقبلية في تشتيت الجهود وإضعاف القضية، حيث أصبحت بعض قيادات الحركات تدور حول نفسها، وأصيب البعض بجنون العظمة، حتى أصبح لا يرد على هاتفه وإن كلمه كبار قيادات دارفور، ولا يجيب دعوة إلى اجتماعات، أو حتى يتنازل لزيارة جنوده في الميدان. وكانت النتيجة أن دارفور لم يعد لها عنوان. ولعل الخطأ الأكبر كان الاعتقاد بأن العمل المسلح هو غاية في حد ذاته، في حين أن العمل المسلح كان قد حقق أقصى ما يمكن حينما أوصل قضية دارفور إلى قمة الأجندة الدولية. ولم تعد بعد ذلك من حاجة أو قيمة له، وإنما كانت اللحظة بعد ذلك للأصوات العاقلة والرصينة لكي تظهر الوجه الحضاري لدارفور وأهلها، وتخاطب المجتمع الدولي وبقية القوى السودانية بلغة العقل والمصير المشترك. بالطبع لا يمكن تبرئة النظام من المسؤولية في كثير مما حدث، فهو أيضاً خلق الأزمة وضيع الفرصة وقسم البلاد بسبب اتباع الأجندة الضيقة. ولكن النظام سعى في مصلحة قادته ونجح لحد ما. وإنما يلام من زعموا أنهم يطلبون مصلحة أهل دارفور ولم تستفد منهم دارفور شيئاً سوى الدمار. نعم، ضاعت، بل ضيعت، فرصة ثمينة على أهل دارفور خاصة والسودان عامة في استغلال التعاطف الدولي من أجل تحقيق نقلة كبيرة لدارفور من هامش السودان إلى وسط العالم. وقد كان هذا نتيجة لحسابات خاطئة، وقصر نظر سياسي وطموحات وأوهام في غير محلها. وللأسف لا يمكن تدارك ما فات، فقد تغير العالم وجرت المياه تحت جسر الزمان المتحرك. ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله. المهم هو استقاء العبر من تلك الأخطاء في الحسابات والتقدير بتحركات حاسمة وسريعة من قبل كل من يهمهم أمر دارفور والسودان ويحرصون على مصلحة الوطن. والمطلوب هو أن يصمت السلاح، وتتحدث القوى المدنية والسياسية بصوت واحد، هو صوت مصلحة الوطن الموحد أولاً، ثم دارفور وأهلها ثانياً. ويجب أن تكون الأولوية للنفير للبناء والتعمير في الإقليم، وعودة كل المهجرين إلى أوطانهم أو ما يختارون من أماكن، وإنهاء أوضاع التشرد والعذاب. ولا عبرة هنا بمقولة أن حل مشكلة دارفور لا تحل إلا بمعالجة مشاكل السودان القومية، وهي كلمة حق يخالطها باطل كثير. فهذا أشبه بالقول بأن مشكلة اليونان لن تحل إلى بحل مشكلة الاتحاد الأوروبي، ومشكلة فلسطين لن تحل إلا بحل قضايا العرب الأخرى. فهذا قول صحيح باطل، ولا يعني أن يعاني اليونانيون حتى يتوصل قادة أوروبا إلى حسم كل خلافاتهم، أو أن يبقى الفلسطينيون بلا وطن حتى ينصلح حال العرب. بنفس القدر، ليس هناك مبرر لأن يبقى أهل دارفور رهائن في المعسكرات حتى يتفق البشير ومالك عقار، ويرضى الصادق المهدي عن ابنه وصهره، وينال الميرغني مناه ويحقق الحزب الشيوعي ثورة البروليتاريا وتقوم الخلافة الراشد في السودان. فهناك أولويات. ومطالب المشردين أولى من مطالب السياسيين في المناصب. كفى تضييعاً للوقت في انتظار أن يقرر هذا الزعيم أو ذاك ما سيرضيه من مناصب، ولتتولى الحركات المدنية بالتعاون مع الأممالمتحدة وقوات اليوناميد إعلان دارفور منطقة خالية من السلاح والميليشيات، واستنفار العالم كله لتدفق الدعم الفوري لإعادة البناء والتوطين والسماح للنازحين وكل أهل دارفور باستئناف حياتهم الطبيعية بدون تأخير ودون شروط.