كان لحادث الوفاة المباغتة للقيادي الاتحادي البارز، أحمد الزايدي وقع الفاجعة والصدمة على عائلته وأصدقائه، ومفاجأة حزينة لدى قطاع واسع من الشعب المغربي، ظهر ذلك جليا في خروج حشود كبيرة لتشييع الراحل إلى مثواه الأخير، وشهد له كثير ممن عرفوه عن قرب بدماثة أخلاقه وبالتزامه السياسي. وكما يقول المثل العربي: "لكل حادث حديث"، فإنه بقدر ما كانت وفاة الراحل الزايدي حادثا فجائيا ومؤلما لذويه ومقربيه، بقدر ما حمل معه كثير من الدلالات والإشارات الرمزية، لأن الراحل لم يكن شخصا عاديا، وإنما قياديا سياسيا ملتزما، اشتهر بنضاله السلمي والهادئ والرصين، خلال مسيرته السياسية والبرلمانية، لذلك ليس مستغربا أن يلتئم في جنازته كل ألوان الطيف السياسي والاجتماعي. وقد أجمعت الشهادات الشفوية والمكتوبة التي قيلت في تأبين المرحوم أحمد الزايدي، على أنه كان فاعلا نشيطا يمارس العمل السياسي بأخلاق ونُبْل، واعتبرته من المناضلين الاتحاديين القلائل الذين ظلوا أوفياء لمنهج الزعيم التاريخي للاتحاد الراحل عبد الرحيم بوعبيد، القائم على قاعدة "لا سياسة بدون أخلاق"، في حياتهم السياسية والحزبية، وكان ينأى بنفسه عن اللجوء إلى أساليب "الخداع والكذب والبذاءة والدسائس.." في نشاطه السياسي، مدافعا عن استقلالية القرار الحزبي.. بحسب بعض أصدقائه. ما أحوجنا هذه الأيام لرجال من معدن الراحل الزايدي، يمارسون العمل السياسي بالتزام وصدق ووفاء.. بعيدا عن الدسائس والبذاءة والكذب والانتهازية والوصولية.. التي طبعت الحقل السياسي ببلادنا خلال السنوات الأخيرة، حتى أصبحت السياسة عند بعض الطفليات التي تتصدر المشهد مرادفا لكل أنواع الدجل والكذب والتحايل.. وهو ما يدل على تردي غير مسبوق للقيم النبيلة التي كانت تؤطر سلوك الفاعلين السياسيين، وهذا ما يهدد في العمق مصداقية العمل الحزبي والسياسي برمته، ويفقد المواطن عموما وفئة الشباب خاصة، الثقة في الممارسة السياسية، وبالتبعية في الاستحقاقات الانتخابية المرتبطة بها. لما أصبحت السياسة بدون أخلاق، لم يعد أحد من المواطنين يكترث بها، خاصة الشباب الذي لا يجد نفسه معنيا بما يروج في الساحة السياسية من صراعات وممارسات لا أخلاقية، لذلك عوض أن ينضم إلى الأحزاب السياسية، وجد كثير منه ضالته في الانضمام إلى مشجعي الفرق الكروية، ولو كان قادة الأحزاب السياسية يدركون أهمية الطاقات الشابة في تنشيط وتطوير العمل الحزبي، لبذلوا الوُسع في استثمار هذه الطاقات الضائعة.. إن الفلسفة التي تقوم عليها نظرية "لا سياسة بدون أخلاق"، مفادها أن السياسة باعتبارها "فن إدارة المتاح أو الممكن"، لا يمكن أن تحقق غايتها النبيلة التي هي العناية بمصالح المواطنين والدفاع عنها، دون استنادها على قواعد أخلاقية، مثل الشفافية والنزاهة والمصداقية والأمانة والوفاء والالتزام والاستقامة، وغيرها من المبادئ التي لا يمكن للممارسة السياسية أن تستقيم دونها، وفي غيابها تصبح الحياة السياسية مسرحا لطقوس الدجل والمكر والخداع والتملق والانتهازية.. لذلك حرصت التشريعات الوضعية على بناء النظام القانوني الذي ينظم العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، على قواعد أخلاقية تروم ضبط الانحرافات من جهة(القانون الجنائي) ويانة الحقوق والحريات(القانون المدني).. لا يختلف اثنان على أن المشهد السياسي المغربي أصبحت تطغى عليه السلوكات والممارسات اللاأخلاقية، إلى درجة فقد العمل السياسي مصداقيته وجديته، وصار مستباحا من قبل المتسلقين والوصوليين وتجار الانتخابات.. ولم يعد الانتماء الحزبي يقوم على القناعة الإيديولوجية والولاء العقائدي، بل أصبح يعتمد بشكل أساسي على المصلحة أو المنفعة السياسية، بحيث قد تجد فاعل سياسي من اليسار ينضم لحزب ليبرالي أو العكس، وقد يتحالف حزب يساري مع حزب يميني في مناسبة انتخابية، من أجل تحقيق منافع سياسية.. وقد تعرضت عدد من الأحزاب السياسية لتصدعات وانشقاقات بسبب وجود عناصر داخل هذه الأحزاب لا تمتلك الحد الأدنى من الأخلاق السياسية، وهذه العناصر يتم توظيفها من قبل أطراف خارجية سواء في السلطة أو في أحزاب وتنظيمات أخرى، لإحداث الانقسامات داخلها لغاية تفكيكها من الداخل. وليس عنا ببعيد ما حصل داخل حزب الاتحاد الاشتراكي، الذي كان أقوى حزب معارض للنظام، خلال مرحلة ما سمي بسنوات الرصاص، وظل متماسكا تنظيميا رغم كل الضربات التي تلقاها، لكنه بعد دخوله في تجربة ما سمي بالتناوب التوافقي، وتحمل مسؤولية تدبير الشأن العام في ظل أوضاع سياسية واقتصادية مأزومة، وحكومة محدودة الصلاحيات التنفيذية، كان من الطبيعي أن تنعكس تلك التجربة الحكومية على شعبية الحزب، بعد فشله في إنجاز الإصلاحات التي وعد بها الناخبين، وكان لذلك تأثير كبير على تماسكه التنظيمي، وتفجرت عدة خلافات وصراعات داخل قيادة الحزب، وكانت النتيجة حدوث انشقاقات متتالية داخله، آخرها الانقسام الذي وقع بين تيار الراحل أحمد الزايدي المسمى" الانفتاح والديمقراطية"، والتيار الذي يقوده لشكر الكاتب الأول للاتحاد، على خلفية المؤتمر الأخير للحزب، الذي شككت في شرعيته بعض قيادات التيار المناوئ، وما أعقب ذلك من صراعات سياسية، أهم أسبابها اتهام القيادة الجديدة بالاستحاوذ على هياكل ومؤسسات الحزب بطرق غير ديمقراطية من جهة، ومن جهة أخرى الخروج عن الخط الفكري والسياسي لحزب القوات الشعبية، وخاصة المبادئ والقيم التي قام عليها الحزب، وناضل من أجلها لسنوات عديدة.