يشهد الاقتصاد العالمي في هذه الايام حالة من القلق والهلع لاستمرار انخفاض أسعار النفط ، تزامنا مع تراجع الطلب عليه، ووفرة المعروض، هذه الاحوال التي تسيطر على دول العالم شهدت هبوطا في مؤشرات الاسواق العالمية، بعد تراجع أسعار خام برنت منذ مطلع الصيف الماضي والتي وصلت إلى أقل من 84 دولاراً للبرميل، ما يعني انخفاضا نسبته 20 % مقارنة بشهر حزيران /يونيو الماضي. ويبدو تراجع أسعار النفط إلى ما دون المائة دولار للبرميل للمرة الأولى منذ عام ونصف العام، محيرا لخبراء السوق مع الكثير من التكهنات حول أسباب التراجع ومدى استمراريته في المدى المنظور. العلاقة بين النفط والازمات السياسية يرتبط النفط بعلاقة وطيدة منذ زمن بعيد مع الازمات والصراعات السياسية، ويرجع الخبراء هذه العلاقة الى بداية القرن الماضي وتحديدا عام 1914، حيث اضحت سلعة النفط محركا اساسيا ومهما في وقائع الازمات والصراعات الدولية، وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى سجلت أسعار النفط مستوياتٍ تصل إلى 100 دولار للبرميل، حيث تنامت الحاجة إلى تأمين مصادر الطاقة للعمليات العسكرية والإنتاج الصناعي، وأصبح النفط أحدَ أهم الأهداف العسكرية، وأحدَ المقومات الاساسية في رسم الحدود السياسية والاقتصادية. واستمر النفط من ابرز العوامل المؤثرة في السياسة الدولية حيث كان له دور جديد، كورقة ضغط في حرب تشرين الاول/ أكتوبر عام 1973 عندما استخدام العرب النفط سلاحا للضغط على الغرب، لإجبار إسرائيل على الانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها في حرب 1967، وقد أكد استخدام العرب لورقة النفط اهمية هذا السلعة ودورها في العلاقات الدولية . وتشير وثائق سرية الى اهمية النفط بالنسبة للدول الكبرى حيث كشفت وثيقة سرية بريطانية آنذاك عن تفكير الولاياتالمتحدة الجاد، حينها، في إرسال قوات محمولة جوا للسيطرة على حقول النفط الرئيسة، في بعض دول الخليج خلال الحظر على صادرات النفط الذي فرضته الدول العربية. ومن ذلك الحين بدأت مسألة تامين امدادات النفط تشغل بال الدول الكبرى، ولا غرابة اذا قلنا ان ما لحق بالمنطقة من حروب وويلات، كان احد اهم اسبابها تأمين تدفق النفط الى تلك الدول التي تحرك دفة الصراعات في المنطقة . وعلى الرغم مما يشهده المجتمع الدولي اليوم من صراعات وحروب اتت على الاخضر واليابس، يقف العالم مصعوقا امام انخفاض اسعار النفط لمستويات قياسية، وهي حالة غريبة قلما تحصل. فالتحالف الدولي ضد تنظيم "داعش" في العراقوسوريا، وانهيار الأوضاع في دول مثل اليمن وشرق أفريقيا، والازمة في أوكرانيا، من المفترض أن تؤدي كلها الى ارتفاع جنوني لأسعار النفط، واشتداد الطلب عليه، الا ان الامر كان عكس هذه التوقعات . وهنا يتبادر لذهن القارئ تساؤلات مهمة: ما هي أسباب هبوط أسعار النفط إلى هذا المستوى؟ وهل سيقود هذا التراجع الى مزيد من الانهيارات في الاسعار؟ وما هي التبعات الإقليمية والعالمية المحتملة؟ هبوط أسعار النفط.. الاسباب تناول الخبراء والمحللون ازمة النفط بالبحث والدراسة، وارجعوا الازمة الحالية في قطاع النفط الى العديد من الاسباب، التي تتوزع بين سياسية واقتصادية مع ترجيح السياسية منها بشكل كبير، ويمكن ان نجملها بالاتي : انكماش الاستهلاك العالمي في الوقت الذي يعتقد فيه بعض المحللين بأن الأسعار تتجه نحو الارتفاع بشكل جنوني، بسبب الازمات والصراعات التي تشهدها مناطق اسيا والبلقان وافريقيا، لم تأت التوقعات بالشكل المفترض ان تكون عليه الامور، فقد توقع خبراء النفط ان تصل الاسعار سقف 120 دولارا للبرميل ، لكن لم يكن بحسبانهم ان الاسعار ستهوي الى ما دون 100 دولار للبرميل الواحد، حيث واصلت أسعار النفط التراجع بصورة غريبة إلى أقل من ذلك لتصل الى حدود 85 دولارا للبرميل ، وهو امر غير معتاد في حالات الصراعات والازمات الدولية مع وجود التوترات السياسية التي تسود المنطقة العربية خصوصا، ما يدعو الى اعادة تحديد اللاعبين في اسواق النفط والقوى التي تهيمن على السوق، والتي تستخدم النفط ورقة للمساومة والاخضاع والضغوط السياسية. ومع هذا التراجع المخيف في اسعار الذهب الاسود، ارتفعت صيحات المطالبين لأوبك بخفض الإنتاج لحدود مليوني برميل يوميا، للحفاظ على تماسك الأسعار، وهنا يرى الخبراء ان الامر يعود إلى دخول منتجين غير شرعيين مثل "داعش" في سورياوالعراق، والميليشيات في ليبيا، وغيرها من الجماعات. ويشير الخبراء الى ان منظمة اوبك بصفتها الدولية وكونها المنتج لقرابة ثلث النفط العالمي، مطالبة بالتحرك العاجل من أجل حماية السوق من التراجع، ولتحافظ على مكانتها في هذا السوق، بعد ظهور من يحاول سلب مكانتها في الفترة الأخيرة، من خلال النفط الصخري وعقد صفقات خلف الكواليس حتى تنهار الأسعار. عقوبات اقتصادية ضد روسياوإيران وهنا يرى العديد من الخبراء والمحللين الاقتصاديين والسياسيين ان ما يجري في أسواق النفط اليوم، يعد "عقابا جماعيا"؛ اذ اتفق منتجو النفط الكبار في العالم والولاياتالمتحدةالامريكية، رغم خسارتها من النفط الصخري، على خفض الأسعار من أجل معاقبة روسيا اقتصادياً؛ بسبب موقفها من الأزمة في أوكرانيا، وكذلك معاقبة ايران التي تم تخفيف العقوبات المفروضة عليها، وأصبح لديها قدرة أكبر على بيع نفطها في الخارج. ولم تكن هذه المرة الاولى التي يستخدم سلاح النفط ضد روسياوايران، بل استخدمتها ادارة الرئيس الاميركي رونالد ريغان في ثمانينيات القرن الماضي، لأحداث عجز كبير في ميزانيات موسكو وطهران. ويشير بعض المحللين الى ان الهدف السياسي من هذا الانخفاض يبدو جلياً للضغط على روسيا بخفض سعر البترول لأحداث عجز في موازنتها، وتمثل مبيعات النفط اهم مصادر الدخل بالنسبة لاقتصادات كل من روسياوايران، وهنا يرى العديد من الخبراء ان استمرار أسعار النفط عند مستوياتها المتدنية قد يوجه صفعة قوية لموسكو، وهو ما قد يدخل الاخيرة في أزمة مالية. وكذلك الحال بالنسبة لإيران، التي اتهمت دولا في الشرق الأوسط بالتآمر مع الغرب، لخفض أسعار النفط لإلحاق مزيد من الضرر باقتصادها الذي قوضته العقوبات. ثورة النفط الصخري في الولاياتالمتحدة كان للطفرة في مجال النفط الصخري دور واضح فيما يشهد العالم من تراجع للطلب العالمي على النفط، ويرجع العديد من الخبراء في مجال الطاقة ما يشهده العالم من تراجع في اسعار النفط الى ما تشهده الولاياتالمتحدة ما يطلق عليه "طفرة النفط الصخري". وفي هذا الاطار نشرت جريدة "فايننشال تايمز" البريطانية في 12 تشرين الاول اكتوبر الحالي مقالا أرجعت فيه هبوط أسعار النفط، الى الطفرة التي تشهدها الولاياتالمتحدة في انتاج النفط الصخري، وهو ما مكَّن الأمريكيون من الاعتماد على انتاجهم المحلي بشكل أكبر والاستغناء عن النفط المستورد من الخارج، ما أدى الى تراجع الطلب العالمي على النفط، إذ ان الولاياتالمتحدة هي أكبر مستهلك للنفط في العالم. أما جريدة "التايمز" البريطانية فكتبت في 16 تشرين الاول اكتوبر الحالي ، أن السعودية اتخذت موقفا محسوبا بدقة، بدعمها انخفاض أسعار النفط إلى نحو 80 دولارا للبرميل لخفض الأسعار، حتى تجعل من استخراج النفط الصخري أمراً غير مجدٍ اقتصادياً، ما يدفع واشنطن في النهاية الى العودة لاستيراد النفط من المملكة وإخراج الغاز الصخري من السوق. وهنا يشير خبراء النفط الى ان تدخل منظمة "اوبك" في وقف انخفاض الأسعار، سيساعد أيضا المنتجين والمستثمرين في النفط الصخري "المنافس" على زيادة ارباحهم، وكذلك دخول مستثمرين جدد لهذا القطاع، وزيادة الصادرات الاميركية من المشتقات النفطية الى العالم، وهذا ما لا تريد "أوبك" ان يحصل . معاقبة دول عربية اللافت هنا أن غالبية الدول المنتجة للنفط هي دول نامية، وتعتمد على النفط مصدرا رئيسا في اقتصادها، واعداد موازناتها العامة، وهنا مكمن الخطورة الشديد. حيث ستكون هذه الدول الاكثر تضررا من هبوط أسعار النفط، والذي قد يشكل أزمة لدى كثير من الدول النفطية، التي تبني موازناتها على أساس أسعار متوقعة للنفط، مثل العراق، الذي يعد من اول الدول المتأثرة بهذا الهبوط، نتيجة انخفاض صادراته النفطية جراء الوضع الامني الذي تعيشه البلاد، مما دفع بعض خبراء الاقتصاد الى التلويح بايجاد حلول امنية عاجلة لتفادي الازمة، وكذلك ليبيا وهو ما يعني أن هذه البلدان ستواجه أزمات مالية . ولا غرابة أنه رغم هذا، ابقت الدول المنتجة للنفط نفس الكميات الكبيرة من النفط ، الولاياتالمتحدة كذلك أضافت أكثر من ثلاثة ملايين برميل يوميا في السنوات الثلاث الماضية، ومنتجو "أوبك" يعملون بكامل طاقتهم، المملكة العربية السعودية التي يشكل النفط أكثر من 92٪ من اقتصادها، تنتج نحو 10 ملايين برميل نفط يومياً، ما يعني أن ايراداتها النفطية تراجعت في ظل الأسعار الراهنة بواقع 300 مليون دولار يومياً، حيث كان برميل النفط يباع في الأسواق ب115 دولاراً قبل ثلاثة شهور، ليهوي الى 85 دولاراً في الوقت الحالي. اثار تراجع اسعار النفط وتختلف الأثار المترتبة على انخفاض أسعار النفط اختلافا كبيرا من بلد لآخر، وبحسب خبراء الهبوط الحاد لأسعار النفط، فانه يبدو نعمة للبلدان الرئيسة المستهلكة للنفط، في وقت تجددت فيه المخاوف بشأن النمو الاقتصادي، لكنه قد يكون نقمة للبلدان المنتجة . ويتوقف ذلك إلى حد كبير على ما تتبعه من سياسات الصرف الأجنبي، فالهبوط الحاد في قيمة العملة الروسية (الروبل)مثلا ساعد الكرملين على التخفيف من آثار انخفاض أسعار النفط، وأتاح للسلطات الاستمرار في الإنفاق المحلي المرتفع، الا أن موسكو في حقيقة الامر ستضطر إلى أن تقلص بشدة وارداتها المرتفعة التكاليف على نحو متزايد. والوضع مماثل في إيران وفنزويلا، مع أن تقييم أثار أسعار الصرف الأجنبي أصعب، لأن العملة الرسمية لكلا البلدين لا تتسم بحرية التداول على نطاق واسع . وكالة الطاقة الدولية في تقرير لها الأسبوع الماضي قالت انه "في البلدان التي لا تكون عملتها مربوطة بالدولار الأمريكي ساعدت التقلبات في أسعار الصرف الأجنبي على إبطال جانب من أثر التراجعات الأخيرة لأسعار النفط، وهكذا فإن الإيرادات الإسمية لصادرات روسيا بالروبل زادت في الآونة الأخيرة على الرغم من هبوط قيمتها بالدولار." وعلى النقيض من ذلك فالبلدان الأعضاء في "أوبك" من دول الخليج مثل السعودية والإمارات العربية المتحدة، اللتين ترتبط عملتيهما بالدولار فإنها شهدت أكبر هبوط في الإيرادات بالعملات المحلية جراء هبوط أسعار النفط. مستقبل غامض وبالحديث عن مستقبل النفط اشار العديد من الخبراء الاقتصاديين الى انه في الأعوام العشرة المقبلة ستتعرض الدول النفطية لمزيد من المشاكل الاقتصادية إذا لم توسع استثماراتها، معتمدين بهذا التوقع على بيانات الاكتشافات الجديدة الموجودة لدى الغرب خاصة الغاز الصخري، الذي سيؤدي الى تراجع أسعار الطاقة، وبالأخص الغاز والنفط. وبالتالي التأثير على ميزانيات الدول على المدى القصير و البعيد، ولهذا رجح خبراء أن تحقق الدول الكبرى المصدرة للغاز المسال مزية استراتيجية في تسويق إنتاجها، على رأسها قطر، وسط بوادر عجز قطاع الغاز المسال في الولاياتالمتحدة عن التكيف تماما مع أسعار منخفضة للطاقة. من جهة اخرى توقع البنك الدولي والمؤسسات الدولية، أن يكون هناك انخفاض خلال الأعوام العشرة المقبلة للغاز الطبيعي بنسبة 20 إلى 25% ، ويؤكد توقع البنك الدولي ان هناك تكنولوجيا جديدة، وان الطاقة الصخرية ليست موجودة حصرياً في الولاياتالمتحدة، إنما أيضاً في الصين، وفي العديد من دول العالم، وفي أوروبا، لكن دولاً اخرى تمنع استخراج هذه الطاقة باعتبارها مضرة للبيئة، ومن المحتمل مع اشتداد الصراع السياسي خاصة مع روسيا ان يتم الاعتماد على هذه الطاقة. وانعكست التوقعات المتشائمة بصورة واضحة على الخسائر الضخمة، التي تعرضت لها الاسواق المالية في الخليج خلال الأسبوع الماضي، وفي مقدمتها السوق السعودي باعتبار ان اسواق المال عادة ما تعكس توقعات المستقبل سواء كانت توقعات متفائلة او متشائمة، وحيث تخشى الاسواق الخليجية من انخفاض سعر البرميل الى 75 دولارا خلال العام المقبل، مما يؤثر على الانفاق الحكومي واداء الاقتصاد واداء الشركات وانخفاض الودائع الحكومية وضعف جوده الاصول وتراجع جوده الائتمان السيادي. وعلى هذا الاساس تراجع الاستهلاك العالمي نتيجة البيانات الاقتصادية السيئة لأوروبا واليابان، والأسباب الجيوسياسية في الشرق الأوسط وأوروبا، وتراجع النمو في الصين، وغطت الضبابية الصورة المستقبلية للاقتصاد العالمي. ولهذا خفض العديد من المنظمات والوكالات الدولية، مثل اوبك ووكالة الطاقة الدولية وادارة معلومات الطاقة توقعاتها بخصوص نمو الطلب العالمي على النفط خلال العامين المقبلين، إذ تؤكد البيانات الاقتصادية لكبار المستهلكين مثل الصين واليابان والولاياتالمتحدة، استمرارية التباطؤ الاقتصادي أطول من المتوقع. ولعل لهذه المعلومات تأثير مهم على حركه اسعار النفط، خلال الأعوام المقبلة، ولاشك ان الانخفاض الكبير في سعر النفط سيؤدي الى مؤشرات عجز متفاوتة، نتيجة الالتزامات الضخمة التي تعهدت بها الدول الخليجية، خلال خططها التنموية للسنوات السابقة وهو ما اكدته وكالة الطاقة الدولية، بأنها لا تتوقع أن تتخذ منظمة "أوبك" قراراً بخفض الانتاج خلال اجتماعها المقرر في فيينا الشهر المقبل. ومن الواضح ان أسعار النفط الحالية مقابل المستقبل، مازالت حسب المنحنى السعري تؤكد قلق السوق بخصوص الأجواء الجيوسياسية واستمرارها، وكذلك قرب نهاية العام والذي عادة ما يقوى فيه الطلب مع فصل الشتاء وارتفاع الطلب على النفط. اخيرا يمكن القول انه وفي ضوء كل المتغيرات التي تحيط بسوق النفط العالمية، أصبح توقع اتجاه أسعار النفط العالمية ليس بالأمر اليسير، لتأثرها بعوامل من الصعوبة توقعها، ومنها ما يتصل بالصراعات الدولية والمشاكل الداخلية في بعض الدول النفطية مثل ليبيا ونيجيريا والعراق. وعليه ستبقى الأسعار المستقبلية للنفط رهينة قدرة العالم على تلبية نمو الطلب العالمي عليه.