لو طلب منك التفضيل بين شركتين والتنبؤ بمستقبلهما، إحداهما تعمل مبدأي المراقبة والمحاسبة وأخرى تسير أمورها بالمزاج ويطلق فيها الحبل على الغارب فلا مراقبة ولا محاسبة، ستختار الأولى وتتنبأ لها بالتقدم والرقي واتساع الأعمال وتحكم على الأخرى بالفشل والإفلاس المحقق، وذلك بالضبط حال النفوس في تزكيتها وتربيتها ينمو فيها الخير بالمراقبة والمحاسبة ويقل شرها وتتدرج في مقامات السالكين في درب المجاهدة والكدح الإيجابي حتى تلقى ربها راضية مرضية. فما هو مفهوم المراقبة والمحاسبة في مجال تزكية النفوس وما هي أهميتها ومجالاتها وكيف السبيل للتحقق بها؟ تلك بعض الأسئلة وغيرها التي تحاول هذه المادة التربوية مقاربتها: أصل المراقبة قوله تعالى:"وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا". وقوله سبحانه:"أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى" وقوله:"يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ" ومثله قوله:"وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ". فمعنى المراقبة: دوام علمِ العبدِ وتَيقُنِهِ باطلاّعِ ربه سبحانهُ وتعالى على ظاهره وعلى باطنه، فاستدامتهُ لهذا العِلمِ واليقين به،هو: المراقبة. وهي ثمرة للعلم الصحيح الصادق بالله تعالى. فأنتَ في حال المُراقبة، عندما تعبد الله باسم الحفيظ، والرقيب، والعليم، والسميع، والبصير، فهذه الأسماء الحُسنى كُلُها تؤدي معنى المُراقبة، إذا تكلّمت فهو سميع، وإذا تحركت فهو بصير، وإذا أضمرت فهو عليم، وإذا خرجتَ من بيتك فهو الرقيب، وإذا عَمِلتَ عملاً فهو الحفيظ،وبموجب استحضار الرقابة الربانية تريد أن يراك على خير ويرضى عن أحوالك وسلوكك مقيما للفرائض مجتهدا في النوافل مسارعا في الفضائل والخيرات،وتشفق أن يراك على شر ويسخط عن أحوالك وسلوكك غارقا في المعاصي وكبائر الذنوب ومجمل المخالفات، فيتولد لديك يقظة وانتباه قبل الأفعال وأثناءها وبعدها،فتكون لك أحوال يسميها أهل التربية والتزكية مشارطة وتكون قبل يومك أو أسبوعك أو شهرك وسنتك أو في أي لحظة من استفاقتك وانتباهك من غفلتك عن التفريط في جنب الله،فتعزم وتقرر فعل الطاعات وما يرضي مولاك وتجنب المنكرات وما يسخط الله، ولأن النفس عصية والهوى غلاب فإنك تراقب تلك النفس في صدقها والتزامها حتى تطمئن إلى وفائها وانضباطها،ويبدأ مسلسل المجاهدة فتحاسبها حامدا الله على محطات نجاحها ومؤملا تدارك ما أخفقت فيه وضعفت عنه فتعاتبها وتكافئها وتعاقبها في حدود ما يسمح به الشرع،فأنت في ترويض مستمر حتى تستقيم في عموم أحوالها وطموحك لا ينتهي في الرقي في مقامات الرضوان حتى تنتهي هذه الحياة الفانية لتبدأ حياة الخلود حيث النعيم المقيم. وأصل المحاسبة استحضار الحساب الأكبر بين يدي رب العباد، وتريد أن يخف حسابك أو يتفضل عليك ربك فيدخلك في دائرة العفو من محطة الحساب الرهيبة والتي ورد في شأنها نصوص شرعية عديدة من مثل:قوله تعالى : ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ) [ الأنبياء : 47 ] وقوله : ( ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ) [ الكهف : 49 ] وقوله سبحانه : ( يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد ) [ المجادلة : 6 ] وقوله : ( يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) [ الزلزلة : 6 - 8 ] وقوله : ( ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) [ البقرة : 281 وآل عمران : 161 ] وقوله : ( يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه ) [ آل عمران : 30 ] وقال تعالى : ( واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ) [ البقرة : 235 ] . إنها نصوص تترك ظلالا رهيبة في النفوس لمن تفكر فيها وتأملها، حساب دقيق يتابع فيه المرء في الصغير والكبير والجليل والدقيق حتى يشمل أمثال الذر من صغار النمل وأقل من ذلك. وكما يقول أهل هذا الشأن:فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه ، وحضر عند السؤال جوابه ، وحسن منقلبه ومآبه، ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته . فمن أشفق على حاله من يوم الحساب والوقوف بين يدي الديان، وتابع نفسه بالمراقبة والمحاسبة والمجاهدة والمعاتبة قلت زلاته وثقلت موازينه في الخير وهيأ أسباب النجاة والتي لا تتحقق إلا بفضل من الله ومنة ومن نوقش الحساب عذب. فيربح صاحب هذه الأحوال يقظة دائمة وجدية مستمرة ومراجعة متواصلة يهذب ويشذب يسقط ويقوم يتعثر ويستقيم يعالج الخطرات قبل أن تصبح إرادات ويقاوم إرادة الشر قبل انتقالها إلى عزيمة ويكف العزائم غير المرضية حتى لا تكون أفعالا، وإذا ضعف مرة وصدر منه قبيح الفعال جاهد ليقطع معه حتى لا يكون عادة، ونقيض ذلك يفعله في مراتب الخير يعدد نياته الصالحة ويقوي الإرادة والعزيمة ويواظب على الخيرات حتى تكون له خلقا وعادة، لا يشبع من خير ينتقل من حسنة إلى أحسن منها ومن فرض عين إلى فرض كفاية يعفي الأمة من تبعات التفريط فيه، ويسيج كل فريضة بسياج من النوافل والتطوع، ينظر إلى ساعات يومه على أنها ظروف تسبقه إلى ربه فإما أن تمتلئ شرا أو تمتلئ خيرا أو تمضي فارغة، ويريدها على أحسن حال. يحذر أن يسخر فقط لغيره وينسى نفسه، يأتي ما يستطيع من الحسنات ويحرص على صيانتها فلا يكون يوم القيامة مفلسا يهب حسناته لمن أساء إليهم وهضم حقوقهم،يحاسب نفسه على ما يتولاه من مهام ومسؤوليات كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية وتربوية ونحوها أحفظ أم ضيع متيقنا أنه إن أفلت من حساب الناس فلن يفلت من حساب الديان إلا أن تغشاه رحمة بما استحقه بإنابة وتضرع ورحمة. ومن أقوال وأحوال الصالحين من سلف هذه الأمة في مجال المراقبة والمحاسبة قول مالك بن دينار: "رحم الله عبداً قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ثم زمَّها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله، فكان لها قائداً" وقال ميمون بن مهران: "لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه، حتى يعلم من أين مطعمه، ومن أين مشربه، ومن أين ملبسه، أمِن حلال ذلك أم حرام" وقال عمر بن عبد العزيز فيما حكته عنه زوجته فاطمة بنت عبد الملك بعد إلحاحها عليه لمعرفة فيما كان بكاؤه فقال:"أني نظرت إليّ فوجدتني قد وليت أمر هذه الأمة صغيرها وكبيرها، وأسودها وأحمرها، ثم ذكرت الغريب الضائع، والفقير المحتاج، والأسير المفقود، وأشباههم في أقاصي البلاد وأطراف الأرض، فعلمت أن الله سائلني عنهم، فخفت على نفسي خوفاً دمعت له عيناي، ووجل له قلبي، فأنا كلما ازددت لها ذكراً ازددت لهذا وجلاً" تلك حكاية المشغولين بتزكية أنفسهم يبنونها شيئا فشيئا بالمراقبة والمحاسبة والمعاتبة والمجاهدة، فهذا الإنسان العاقل الفطن يستحضر أن ربه أكرمه، وأسجد له ملائكته لما كان في صلب أبيه آدم،وأعطاه الحرية من دون خلق كثير في أن يؤمن أو يكفر، وخيره بين الاستقامة والانحراف، فاختار الإيمان والاستقامة ليأتي بعض أسباب دخول الجنة والنجاة من النار. X