الشمس لا يحصرها الغربال.. مثل ضرب لمن ظن أن الحقيقة الساطعة يمكن محاصرتها والتعتيم عليها أو تزييفها حتى. ذلك مثل صار معروفا في المشرقين والمغربين منذ قرون خلت. فحبل الكذب ما أقصره، ومختبر التزييف ما أحقره، والغربال أمام الشمس ما أصغره. وقد تأكد هذا المثل في زمننا الذي أطلقت عليه أسماء ما أضخمها وما أسطعها مثل "حقوق الإنسان"، و"حرية الإنسان" و"ثورة المعلوميات والاتصال". بل إن الولاياتالمتحدة التي باشرت استعمار العالم عسكريا، بعد استعماره اقتصاديا وسياسيا، تسمي نفسها "زعيمة العالم الحر". وتزعم أنها بلد الحرية والتحرر، والحال أنها على العكس من ذلك، بلد الاستعباد وقمع الحريات، وتكميم الأفواه حتى داخل ترابها، فكيف يقال عن خارج حدودها التي لا تعلمها إلا هي. تأكد هذا المثل على الخصوص في هذه الأيام التي تشن فيها القوات الأمريكيةالمحتلة حربا عدوانية لا نظير لها منذ أمد بعيد، تحت شعار كاذب خاطئ "تحرير العراق" أو "التطهير الديمقراطي". ولعل أول الناس إدراكا وإمساكا بهذه الحقيقة، هم أهل الصحافة والإعلام نساء ورجالا الذين شنت عليهم حرب أخرى لا تقل همجية وضراوة عن الحرب الوحشية على الشعب العراقي والأرض العراقية. حرب تضع حدا لحياتهم عندما يصرون على نقل صور حية عن الذبح المباشر للمدنيين، وعن الأشلاء الموزعة الممزقة للموتى من الأطفال والشيوخ والنساء. وهي بالطبع مشاهد فظيعة مرعبة تخترق أقسى القلوب وأصلبها، فضلا عن الانهيار العصبي أمامها أو تفجر الدموع الحارة من عيون المشاهدين من كل الملل والنحل. في عام 2002 لقى 25 صحافيا مصرعهم بسبب قيامهم بواجبهم المهني أو بسبب التعبير عن وجهة نظرهم (دون الحديث عن المستنطقين منهم وهم 692، والمعتدى عليهم 1420، والذين صادرت الرقابة أعمالهم 389. وفي مطلع العام الحالي، فاتح يناير 2003، سجن 118 منهم). أثناء القيام بالواجب في الحرب العدوانية على العراق، تعرض صحافيون من مختلف المنابر، بما فيها الأمريكية، لاعتداءات وانتهاكات جسيمة من قبل القوات الغازية: "العربية" فقدت فريقها، و"الجزيرة" مات أحد مصوريها، ومنعت من تقديم النشرة الاقتصادية من الولاياتالمتحدة ومراسل "كريستين ساينس مونيتور" طرد من أرض المعركة لأنه كشف رعب "المارينز"، وشبكة "أ.ن. بي. سي" الأمريكية أقالت مراسلها الحربي لإعلانه فشل خطط الغزو، ولاستنكاره كذب الأبواق الحربية لبلاده، رغم أنه حاصل على "جائزة بوليتزر"، وكان هذا المراسل نفسه هو الذي فصل من "سي. إن. إن" بعد ضغوط على الشبكة من وزارة الدفاع بسبب فيلم وثائقي له يؤكد فيه استخدام الكوماندوس الأمريكية لغاز الأعصاب ضد الجنود الأمريكيين الذين هربوا إلى لاووس خلال حرب فيتنام. الحصار الإعلامي وانتهاك حرية الصحافيين الذي تتزعمه قوات البغي والعدوان تجاوز الحدود الأمريكية إلى عدة بلدان موالية لواشنطن، وظهرت العلامات افاضحة لذلك على التقارير الإخبارية لعدة قنوات رسمية ولصحف أخرى مقربة من القرار الأمريكي، وفي المنع الذي تعرض له مراسلون معتمدون لقنوات عربية بالمغرب. لكن كل هذه المناورات والاعتداءات لم تمنع الحقائق من الظهور والافتضاح حتى يراها الجميع، لأن الشمس الساطعة لا يحصرها الغربال.