لم يكن أحد يتصور أن يصدر القضاء المصري حكما بإعدام 529 من المنتمين إلى جماعة الإخوان الذين أعلنوا رفضهم للانقلاب العسكري، وأن يحيل أوراقهم إلى مفتي الجمهورية للنظر فيها قبل تنفيذ الحكم. كانت الفرضية المطروحة، أن يتم استعمال نفس الأسلوب الذي كان يستعمل زمن حكم مبارك، بأن يتم التحفظ على المسجونين وتأجيل المحاكمات إلى حين مرور الانتخابات الرئاسية، لكن يبدو أن الاضطراب والتوتر الذان يرافقان خارطة الطريق التي تم الإعلان عنها، والعجز عن التعاطي مع حراك الشارع المتقد، جعل الممسكين بزمام السلطة في مصر، يخرجون عن صوابهم وينتقلون من معركة كسر العظم إلى خيار الإبادة السياسية. لم يحدث في التاريخ السياسي القريب للدول العربية، أن صدر حكم بالإعدام يشمل كل هذا العدد الضخم، بل حتى بالاعتبار السياسي والدبلوماسي، فإن صدور هذا الحكم بتزامن مع انعقاد اجتماع وزراء الخارجية العرب الذي يمهد للقمة العربية التي ستنعقد اليوم في الكويت، يعتبر غباء سياسيا بكل المقاييس، إذ كيف يمكن لمصر، أو الدول التي تجاري أطروحتها الأمنية الاستئصالية أن تصير لها القدرة على الحوار مع الدول العربية الأخرى قصد إقناعها أو مقاسمتها جزءا من "همومها" الأمنية والسياسية مع جماعة الإخوان. القضية اليوم، تجاوزت الحديث عن توظيف الدولة المصرية لجهاز القضاء والإعلام لتصفية خصومها السياسيين، فهذا أصبح اليوم جزءا من تحصيل الحاصل، إنما المهم في قراءة هذا الحكم أن نلتقط الرسائل المختلفة التي تريد دولة العسكر في مصر أن ترسلها للداخل والخارج. 1- أولى هذه الرسائل موجهة إلى الداخل، وتحديدا، إلى جميع قوى المعارضة سواء لشرعية الانقلاب أو لمسلكياته، ومضمونها، أن أي قوة سياسية تعارض المسار الذي يجري اليوم فرضه بالقوة والنار وبقمع الحريات ومزيد من إغلاق البيئة السياسية، ستواجه بنفس المصير الذي تواجه به جماعة الإخوان، وأن الخيار الوحيد المطروح هو الانخراط و المباركة للمسار الجاري على الأرض. 2- ثانية هذه الرسائل موجهة إلى الخارج، وتحديدا إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد الأوربي، ومضمونها أنه إذا كان قد حصل الاتفاق، بوجه من الوجوه، على إسقاط تجربة الإخوان، وقامت المؤسسة العسكرية بدورها، فاتركوها تدير شأنها بمعرفتها ولا حاجة إلى ممارسة الضغوط عليها لفتح العملية السياسية، لأن من شأن ذلك أن يعيد النقطة إلى الصفر. أي أن إصدار حكم الإعدام في حق 529، هو تأكيد على إصرار المؤسسة العسكرية على عدم الرضوخ إلى الضغوط الدولية التي تطالب بفتح العملية السياسية، واستمرارها في نهج الإبادة السياسية في وجه الإخوان، وكل التيارات التي تحذو حذوها في رفض الانقلاب والتظاهر عليه أو على بعض سلوكاته. 3- ثالثة هذه الرسائل، موجهة إلى الدول العربية في اجتماعها في القمة العربية، ومضمونها الكف عن إطلاق دعوات المصالحة ولم الشمل، لأن مقتضى ذلك هو دعوة مصر إلى إجراء المصالحة السياسية في الداخل، وألا خيار لضمان وحدة الصف العربي إلا باعتماد استراتيجية واحدة لمواجهة الإرهاب يكون عنوانها الأول خوض حرب عربية شاملة ضد الإسلاميين المشاركين في العملية السياسية، وتكوين جبهة ممانعة ضد أي تحول ديمقراطي في العالم العربي. 4- أما الرسالة الرابعة، فموجهة إلى الشعب المصري، الذي يعاني اليوم أضعافا مضاعفة ما كان يعانيه زمن حكم مرسي، ومضمونها، أن أي خروج للشعب، أو التحاق بقوى المعارضة، أو احتجاج على عدم بالوعود التي تم إطلاقها غداة الإطاحة بمرسي وإعلان خارطة الطريق الجديدة ستواجه بالنار والإعدامات الصادرة عن القضاء. هذه بعض الرسائل التي تم استقراؤها من حكم الإعدام، وهي في مجموعها، تدل على أن العقل السياسي الذي يدير الوضع في مصر، يتعامل مع البيئة السياسية كما ولو كانت ساحة حرب عسكرية، ويعتبر أنه بالإمكان أن ينجح في مربع السياسة بالاحتكام إلى القوة العسكرية والأمنية وتوظيف التحكم القضائي والإعلامي. لا نحتاج أن نؤكد بأن مصير اي مشروع يشتغل في السياسة بهذا المنطق هو الفشل، ولا نحتاج أن نذكر بأن أول درس مستخلص من ربيع الشعوب العربية هو فشل هذا الخيار، لكن يبدو أن الدفاع عن المصالح، أو للدقة الفشل في إبداع طرق حديثة للدفاع عن المصالح، جعل العقل السياسي في مصر ينتج خيارا أسوأ من الخيار الذي تمت الثورة عليه.