العفة أم الفضائل، بل هي فضيلة إلهية، تدني العبد من خالقه،تحفظه من السقوط،من النزول إلى المرتبة الحيوانية،هي السلطان وإرادة القوة،هي سلطة الإنسان على نفسه،وعلى تيارات الهوى والشطط والشهوانية والانحراف. العفة هي النقاء والصفاء والطهر،هي الانتصار على النفس في معركة البهيمية،العفة هي التوازن النفسي ،هي الغنى بالاستغناء والامتلاء بالامتناع. العفة حالة من المجاهدة العقلية والنفسية والوجودية، حالة واعية متيقظة،يختارها الإنسان و يحياها بكامل إرادته. في دراسة أي مفهوم يمدنا المعجم بالأساس الذي نبني عليه.ترحل المفردات باتجاه حقول دلالية ومعرفية متباينة،وتساهم في بناء التصور الوظيفي والمفهومي للحقل الجديد الذي تزرع فيه،إلا أنها تظل محتفظة بسمة أو سمتين دلاليتين من المعجم.وعلى الدارس أن يتمتع بحس لغوي ومعرفي عال ليحدد هذه المناسبة اللطيفة وهذا الخيط الدقيق الذي يظل يربط مابين المعنى المعجمي والمعنى الاصطلاحي.فالمفهوم رغم كثافته الاصطلاحية يحمل معه دوما ظلال المعنى الحرفي الأولي الذي يعطيه له المعجم. في لسان العرب عفف :العفة الكف عما لا يحل ويجمل من المحارم والأطماع الدنية، والاستعفاف طلب العفاف وهو الكف عن المحارم والسؤال من الناس، وقيل الاستعفاف الصبر والنزاهة عن الشيء ومنه الحديث»اللهم إني أسألك العفة والغنى. والعفة والعفافة بقية الرمث في الضرع،وقيل العفافة بقية اللبن في الضرع بعدما يمتك أكثره.وقيل العفافة أن تترك الناقة على الفصيل بعد أن ينقص مافي ضرعها،فيجتمع له اللبن فواقا خفيفا. قال الفراء العفافة أن تأخذ الشيء بعد الشيء فأنت تعتفه. تحدد اللغة العفة والعفاف والاستعفاف في الامتناع عن الحرام والصبر والنزاهة عن الشيء.وبهذا المدلول نفسه توظف العفة في مجالات الأخلاق والمعاملة والسلوك.مايثير الانتباه هوأن العفة هي الفضيلة التي تتطلب جهدا جهيدا،فيها قدر من المعاناة والألم،الذي تعقبه راحة وانتصار وهدوء عقل،يقول الراغب الأصفهاني في المفردات»العفة حصول حالة للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة والمتعفف هو المتعاطي لذلك بضرب من الممارسة والقهر». في هذه المساهمة أميز بين مجالين للعفة،الأول لايعنيني في هذا المقام وهو مجال الأخلاق و السلوك والمعاملات. والعفة في هذا المجال فلسفة للخلق الكريم المعتدل المقتصد،هي مفهوم عملي يتحقق في حياة الأفراد داخل المجتمعات. أما المجال الثاني وهو بيت القصيد هو مجال التفكيرالفلسفي والعلمي،في هذا المجال أفترض أن العفة حالة للفكرالاستثنائي الخاص ،ليست عفة الفرد الكائن بل عفة الإبداع،عفة الكينونة وقد انكشفت في البناءات المفهومية والنظرية للنصوص. لكن الإشكال هو كيف يكون المنتج الفلسفي عفيفا وهل يمكنه ذلك؟كيف نتحدث عن العفة في تاريخ الفكر؟وتاريخ الأفكار هو تاريخ الأيديولوجيات والمصالح المتداخلة،تاريخ الأخطاء والتجاوزات والقصور ،تاريخ هو بؤس المحاولة.إن تاريخ الأفكار لايحاكم من منظور أخلاقي،لأنه عالم المحاولة والتجربة،والتجربة فيه أم الخطأ،حيث كل شيء قابل للتكذيب. تاريخ الأفكار هو عالم التجاوزات، والتلبس بالسلطة وبالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدوافع الغريزية الشعورية واللاشعورية،لانقاء فيه ولاصفاء،إلاماكشف الغطاء عن نفسه واختارأن يتشمس في عريه... يولد الفكرفي عمق الجدالات والصراعات السوسيوحضارية،ويكون جوابا على تحديات العصر وأسئلته وقلقه.في الفكر وتاريخه درجة من التوتروشيء من عدم الحياد ودفقة من جنون.وهو في جزء منه ينبغي أن يكون كذلك،لأنه تجربة إنسانية متكاملة في وحدة أبعادها وغناها وتنوعها،وإلا فإنه سيكون خيانة لأعماق النفس،وترفا لاضرورة. لكن الفكر يزل ويلج الغياب ويسقط،عندما ينتصر للهوى والشطط والزيغ والظن والتيه،عندما ينتصر للنفس وأطماعها الدنية،وللسلطة ورغابها العاجلة القهرية،فيحرف الحق ويدعو للباطل»أفرأيت من اتخذ إلهه هواه،وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه بعد الله أفلا تذكرون»سورةالجاثية» والشهوات العقلية والانحرافات الفكرية يصعب كشفها،لأنها مبطنة ومدسوسة في أعماق النصوص وفسيفسائها الجميلة،وثاوية في طبقات المعنى العميقة ،والغواية في الفكر لا تقاوم. الفكر ابن بيئته،واستجابة لشروط ظرفه التاريخي،وله لحظات إشراقه وعمقه وعفته،عندما يتجرد من الهوى ومن النوازع المظلمة السوداوية،من نوازع التدمير،ويمجد الوضوح والبداهة والبساطة والنور و الانعتاق من الكهف ومن قيوده وظلمته،عندما لا يكون مجرد خوارزمات فارغة من المعنى والغاية والقيمة. في العقل النقدي هي عفة الحكمة، لاالعقل الأداتي الاستهلاكي،في العقل العملي لا العقل الدوغمائي.العفة هي العقلانية التواصلية الهادئة التي تحافظ على الاختلاف والتنوع،وتؤمن بالجدل والحوار»ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات،أينما تكونوا يات بكم الله جميعا،إن الله على كل شيء قدير»سورةالبقرة. عفة الفكر في إنصاته للطبيعة لا استنزافها واستغلالها واستنفاذ طاقاتها الحية»ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس»الروم. عفة الفكر في العقلانية الشاعرية ،التي تحيي لحظة التوحد البكر مع الطبيعة ومع الخلق بلمسة صوفية ناعمة،تفهم أن وراء كل شيء ندركه آخر لاندركه،وفي هذه التجربة يستوي الدين والعلم والفلسفة والفن... العفة صفشششششششششششششششششة العقل المستنير الحر،صفة الوعي المتوحش القوي،الذي لا يهدأ من القراءة وإعادة القراءة والمراجعة والنقد والتمحيص حتى لا تبقى إلا تلك العفافة التي ستستدر الكثرة،وتجلب العطاء الخفيف الفواق ...إنها القلة النوعية بجدتها وأصالتها في مقابل التراكم المعرفي والتناسل الإبداعي والتناص والكثرة .والقلة إحدى السمات الدلالية لمفهوم العفة،يقول صاحب مقاييس اللغة»العفة تأتي لمعنيين:الأول اجتناب القبائح والآخر قلة الشيء،ولذا يقال للبن المتبقي في الضرع عفة على وزن مدة» والقلة مجاز للحظات الانفصال في تاريخ الفكر،فهي التي تحمل الإضافة والإبداع والفرادة والتميز... ومصطلح العفة لا يدرك إلا ضمن نسق مفاهيمي ترابطي،حيث العلاقات الدلالية والتصورية تضيق أحيانا وأحيانا تتسع وتتقاطع.فالعفة لايكتمل تصورها إلا في مقابلتها بمفاهيم مثل الحياء والفضيلة والشرف والشجاعة والعذرية... والفكر الفلسفي منذ بزوغ فجره كان بحثا في الفضيلة والحق والحرية والعدالة والجمال...والعفة أم هذه الفضائل جميعها.إن الفلسفة هي علم التناسق الكلي،والتناغم لا يتحقق إلا مع عفة الغاية وشرفها. العفة لحظة للشجاعة،حالة مصاحبة للعقل اليقظ المنفتح السيد.والسقوط والشهوانية لا تكون إلا بتخدير الحاسة النقدية وعمى البصيرة»وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير» سورةالملك.التفكير العفيف هو التفكير الهادئ،الذي يسمو باتجاه المطلق والحق والنور.