الدين النصيحة، وهي كلمة جامعة مانعة، كررها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرَاتٍ على مسامع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فبَيَّنَ بها حقيقة دين الإسلام المنبثق أساسا من رحمة الله تعالى بعباده، وإرادة الخير الخالص لهم، والشفقة عليهم. قال الله تعالى: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ". وقال جل وعلا:"وما أرسلناك الا رحمة للعالمين" سورة الأنبياء106 فالرحمة تعكس المستوى الرفيع للعلاقة التي يجب أن تربط المسلم بأخيه المسلم، حيث تصفو تلك العلاقة من كل مظاهر الغش نحوه، وتتجرد للسعي فيما يعود نفعه عليه، وتعليمه ما ينفعه في دنياه وأخراه، وكف وجوه الأذى عنه، وأَن يحب له ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه. النصيحة كلمة جامعة معناها: حيازة الحظ للمنصوح له، وهي تحري فعل أو قول فيه صلاح صاحبه. وليس في كلام العرب كلمة مفردة تفي بالتعبير عن هذا المعنى سوى هذه الكلمة؛ ومن ثم جعلها النبي صلى الله عليه وسلم عماد الدين وأساسه. فكان أن هتف الصحابة رضي الله عنهم: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم(رواه مسلم). وحق لهم أن يهتفوا، فلأن النصيحة للعباد من أعظم ما يتقرب به المرء إلى ربه. فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلّ: أَحَبُّ مَا تَعَبَّدَنِي بِهِ عَبْدِي إِلَيَّ، النُّصْحُ لِي. ومن آداب وشروط الناصح: الإخلاص، والعلم، واللين والرفق والرحمة، وعدم التشهير بالمنصوح، والصبر وعدم إيذاء المنصوح، والحكمة والسكينة، والصدق، والدعاء، ومعرفة حال المنصوح. ومن فوائد التناصح: تحقيق الإيمان وزيادته/ وتطهير المجتمع من الفساد، وتقوية الروابط في المجتمع الإسلامي، وتنمية شخصية المسلم في أبعادها الإيجابية والتفاعلية، والفلاح والفوز في الدنيا والآخرة، والقيام بالواجب وإبراء الذمة. لقد بلغ من قيمة خلق النصيحة أن يرتقي به النبي صلى الله عليه وسلم من مستوى الإرشاد إليه، إلى درجة التعاقد ومبايعة الصحابة رضي الله عنهم عليه، فعن جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ البجلي رضي الله عنه قَالَ: "بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِقَامِ الصَّلَاة،ِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاة،ِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ"(رواه البخاري) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: "كَانَتْ مُبَايَعَة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ بِحَسَبِ مَا يَحْتَاج إِلَيْهِ مِنْ تَجْدِيد عَهْد أَوْ تَوْكِيد أَمْر، فَلِذَلِكَ اِخْتَلَفَتْ أَلْفَاظهمْ". وقد توفرت في جرير رضي الله عنه من الصفات الحميدة والخصال الرفيعة ما أهله لأن يكون ناصحا أمينا. كان سَيِّدَ قَوْمِهِ وكريمَهم، وهو الأَمِيرُ النَّبِيلُ الجَمِيلُ، ومِنْ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ. كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْجَبُ مِنْ عَقْلِه وَجَمَالِهِ. وكان عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "جَرِيرٌ يُوسُفُ هَذِهِ الأُمَّةِ". وعن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ، قال: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَقْبَلَ جَرِيرُ بنُ عَبْدِ اللهِ، فَضَنَّ النَّاسُ بِمَجَالِسِهِمْ، فَلَمْ يُوَسِّعْ لَهُ أَحَدٌ. فَرَمَى إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِبُرْدَةٍ كَانَتْ مَعَهُ، حَبَاهُ بِهَا، وَقَالَ: دُونَكَهَا يَا أَبَا عَمْرٍو، فَاجْلِسْ عَلَيْهَا !فَتَلَقَّاهَا بِصَدْرِهِ وَنَحْرِهِ وَقَالَ: أَكْرَمَكَ اللهُ يَا رَسُولَ اللهِ، كَمَا أَكْرَمْتَنِي!(سير أعلام النبلاء)، ويشهد لتواضعه رضي الله عنه أنس بن مالك، حيث قال: "صحبت جريرا بن عبدالله، فكان يخدمني، وهو أكبر من أنس، قال جرير: إني رأَيت الأَنصار يصنعون شيئا لا أجد أحدا منهم إِلا أكرمته"(البخاري).