جلست حليمة إلى جارتها مليكة مطرقة الرأس، دامعة العينين، وحزن جارف يجثم على قلبها .. وكانت في نفس الآن تستشعر حرجا بالغا أمام جارتها المتعلمة مليكة، فلطالما حذرتها في الدروس الدينية التي تجمعها بها رفقة الجارات من مغبة الجلوس صباح مساء إلى التلفاز والاعتناء أكثر بابنتها دلال التي كبرت وما عاد حالها يسر عدوا ولا حبيب .. فجأة صارت دلال تلبس لباسا غريبا لا أثر فيه لبعض من حياء ، وغدا وجهها الجميل ورشة لتجريب كل أنواع الأصباغ وتراجعت علاماتها المدرسية إلى الحضيض ..وأصبحت معالم الثانوية التي تدرس بها دلال محفورة في ذاكرة حليمة ، من فرط استدعائها مرة أو مرتين في الأسبوع الواحد لإدارة الثانوية تنبيها لها من سلوك دلال المثير لقلق أساتذتها . منذ يومين اختفت دلال .. هاتفت حليمة كل صديقات ابنتها ومعارفها لعلها تجد عندهم خيطا يصلها بدلال ..لكن بلا جدوى ..كل جيرانها الذين علموا بالخبر واسوا حليمة وأوصوها بالصبر دون أن تفلت من تعليقاتهن المتشفية فيها كم قلنا لك يا حليمة [اللي حط شي عصا يتضرب بيها] .. أنت السبب.. كان كل من حواليها ينبهونها إلى أنها دللت ابنتها أكثر من اللازم ..وأنها لن تتأخر قي رؤية النتيجة المرة لتربيتها السائبة لها. وكان أسعد أوقاتها تلك التي تجلس فيها رفقة ابنتها لرؤية المسلسلات المكسيكية والبرازيلية والتركية ..فإذا ما قالت دلال بنبرة الغواني : ما أجمل هذا البطل ليتني كنت مكان البطلة سارعت حليمة إلى طمأنة ابنتها وإشعارها بأنها أجمل من البطلة .. وكثيرا ما زفرت دلال بحرية أمام المرآة وهي تتأمل جسدها بحسرة ، فغيرها من صديقاتها الأقل جمالا منها عبرن البحر ‘إلى جنان الحرية فكيف لا يسعفها الحظ هي الجميلة الذكية فتفتح عينيها لتجد نفسها داخل استوديو غربي وبين يدي « توم كروز « أو « دي كابريو « وتبادرها حليمة قائلة : لاعليك حبيبتي ، لا أقول كما المثل المصري ألف من يتمناك بل آلاف !! . وحليمة تستعيد ذكريات النفخ في غرور ابنتها حد الرمي بها إلى التهلكة بيديها ، رن هاتف المحمول ، تلقفته حليمة بيد راعشة وفتحت الخط آلو أمي ..أنا دلال.. سامحيني إن تغيبت بدون إذن.. أنا مسافرة إلى إيطاليا عبر ليبيا عن طريق الهجرة السرية ..التقيت مغربيا يسكن في إيطاليا ..يعمل في ملهى ليلي ، سأشتغل معه في البداية كمنظفة ، وسيعرفني على فنانين إيطاليين سيصورون لي أشرطة خاصة!!! وسأحصل على مبالغ خيالية عن كل صورة .. ها قد أتى الحظ إلى بابي كما قلت لي يا أمي ، فلا تنسيني من الدعاء .. وأٌقفلت دلال الخط . سقطت السماعة من يد حليمة واعتراها الوجوم و الذهول ,, يا للمصيبة حتما سقطت ابنتها الوحيدة في فخ شبكة تهجير الفتيات واستغلالهن ،وهي لا تدري أنها دخلت الجحيم برجليها.. هكذا شرحت لهن مليكة كيف تهرب الفتيات القاصرات .. وكيف أن سوق هجرتهن إلى الخارج أخطر بكثير وأوسع من حالات صفقات تزويجهن كرها المعدودة والمحدودة ، وإن كان الإكراه في القضيتين مدانا ومرفوضا تقول مليكة. رباه من يعيد لي فلذة كبدي كانت تزفر حليمة وتواصل الدمع بالدمع ؟؟؟ لا تقنطي من رحمة الله ياحليمة وأكثري من الدعاء والصلاة في جوف الليل ..واهجري هذه المسلسلات الرديئة ، تعزيها مليكة.. إنها بمثابة التغذية السيئة التي تضر ولا تنفع .. لا شك في ذلك تتمتم حليمة في نفسها، ولولاها ما رمت دلال بنفسها في أحضان الذئاب بحثا عن حياة وهمية لا توجد إلا في المسلسلات الرخيصة لكن من أشعل التلفاز ياحليمة ، واختار الجلوس صباح مساء إلى قنوات الإغواء دون قنوات المؤانسة الراشدة .. ومن زين لدلال طريق الهلاك ؟؟ أنت يا حليمة تقول نفسها اللوامة .. و من يزرع الريح يجني العاصفة.. هل تعرفين حكاية الفيل الأبيض سألتها مليكة وهي تجلس إليها مواسية.. ودون انتظار جوابها قالت: [ إنه فيل هندي قوي وضخم اشتراه أحد الأغنياء وأحضره إلى حديقته الشاسعة وهناك عند نوم الفيل أوصى خدمه بوضع كرة حديدية جد ثقيلة في السلسلة التي قيدوا بها رجليه .. وحين استفاق الفيل الأبيض وأراد التحرك وجد نفسه مقيدا .. وظل الفيل الأبيض يحاول التخلص من قيده بلا جدوى.. وكف عن محاولة انتزاع القيد .. ومضت الأيام والفيل الأبيض مستأنس بقيده وذات يوم أمر مالك الفيل بإزالة الكرة الحديدية من قدمي الفيل واستبدالها بكرة من خشب جد خفيفة وانتظر المالك ان يتخلص الفيل الأبيض من قيده لكنه لم يفعل ..كان قد تبرمج تماما على قبول وضع الأسر فلم يعد يفكر في تحرير نفسه. وتخلص مليكة إلى استنتاجها الأهم : أنت يا حليمة برمجت ابنتك على أنها جميلة الجميلات وأن جسدها لا يصلح إلا لأن يكون سلعة لدى لم تنفع مع برمجتك السلبية نصائحك ومواعظك ، وستمضي ابنتك كالمسحورة في برمجتها ولن تفيق منها حتى تصطدم بالواقع المظلم الذي تحيا فيه من سبقنها من الفتيات المبرمجات على الإحتفاء بجمالهن وأجسادهن. ومرت أشهر تلو أعوام وعينا حليمة ابيضتا من الحزن .. وأنى لها كظم حزنها ومليكة تخبرهن أن شبكات دولية ينشطها مغاربة وأجانب تحتال لتهجير الفتيات بحجة العمل ثم تسحب منهن كل أوراق هويتهن وتحبسهن في أوكار عفنة لعرض أجسادهن لكل بهائم الذكور الذين يدفعون بلا حساب لسماسرة تلك الصفقات المتوحشة .. تقول مليكة أن المؤلم في تلك الصفقات هو عدد الفتيات المغرر بهن اللواتي قد يلفظن أنفاسهن في الغربة وحيدات مهانات من فرط السهر رفقة زبناء أجلاف يجربون فيهن كل شذوذهم بلا رحمة كأنهن مجرد دمى ناهيك عن وصلات الضرب القاسية للمتمنعات. ولا حركات نسائية تحتج بقوة ضد القتل والإرهاب الحقيقي والأفجع للقاصرات المغربيات .. وحتى كتابة هذه السطور، لا زالت دلال في عداد المختفين وربما تكون في عداد الموتى بكفن وقبر غريب.. وحليمة الوحيدة كلما رأت الممثلة التركية « لميس» العارية الصدر تلعب بشعرها المتموج في لقطة الإشهار بالتلفاز تضربها بفردة الحداء وتنخرط في موجة بكاء بلا انتهاء..