في المجتمعات العربية تحيل كلمة «عانس» بالضرورة على جنس المرأة دون الرجل، على غرار كلمات أخرى ليس لها مرادف في صيغة المذكر مثل حائض و مرضع وهي كلمات من الناحية الواقعية لا يمكن أن تكون بصيغة المذكر، لأنها مرتبطة بوظائف من خصوصيات المرأة. وإذا كان لقب عانس يطلق على المرأة التي لم تتزوج رغم تجاوزها السن الطبيعي للزواج والإنجاب، فإن الذاكرة الشعبية تغذي هذه الصفة بكل الحمولات القدحية، وتزخر بقاموس مرعب من دلالات البؤس الاجتماعي والنفي التام للكيان الأنثوي بدون أدواره داخل العش الزوجي...، كما أن النخبة?من الكتاب والأدباء، غالبا ما يمتحون من هذه الذاكرة ويصورون المرأة العانس غارقة في وحدتها وسهادها، تنتظر فارس الأحلام الذي قد لا يأتي بعد أن فاتها القطار... وانطلاقا من هذه النظرة التجزيئية والتمييزية للإشكالية، تسجن المرأة/ العانس داخل حلقة مفرغة من الاستفزازات والكوابيس النفسية والاجتماعية، فمن الشفقة عليها والدعوة إلى «إنقاذها» والمن عليها برجل يكمل أنوثتها إلى استرخاصها واعتبارها «سلعة كاسدة» تستحق أن تباع في السوق الذكورية دون قيد أو شرط.. إن المجتمعات التي لا تزال ثقافة الانحطاط جاثمة على تصوراتها اتجاه المرأة، تصر على تحليل بعض الظواهر الاجتماعية السلبية على حساب المرأة وحدها، ككبش فداء، يعفيها من الحلول الواقعية. وهكذا يصبح «الرجل» غير مسؤول عن الظاهرة وغير معني بها، وبالتالي لا تسبب له نفس الحرج الاجتماعي، بل يشعر بأفضليته وتميزه لجنسه في جميع أحواله حتى المنحرفة منها. وبهذه الخلفية القاصرة، يتعامل مع المرأة التي لا تريد أن تتنازل عن كرامتها أو حقوقها، أو قناعاتها من أجل الحصول على «رجل» وكفى. انطلاقا من هذا المخيال الاجتماعي الذكوري، تعاقب المرأة/ العانس عقابا جماعيا، حيث يشتد الضغط عليها فتقع الانهيارات النفسية، لتتبعها الانهيارات الأخلاقية، وتلك نتيجة حتمية للمقاربة الأحادية المبنية على اعتبار أن مشكل «العنوسة» يهم النساء دون الرجال، إذ يتم تجاهل حجم وخطورة الظاهرة بجذورها التي تدل على خلل ما في المنظومة الأسرية والقيم التربوية كمؤشرات تدل على انهيار الأسرة، وتحول المجتمع إلى مجموعة من العزاب والعازبات لا يستطيعون الارتباط بشكل شرعي داخل مؤسسة الزواج لأسباب يجب البحث عنها ومعالجتها من هذه الز?وية الشاملة. مؤسسة الزواج لم تعد تستقطب الشباب: أين الخلل؟ يعتبر الزواج المؤسسة الطبيعية التي تضمن إشباع الحاجات النفسية والعاطفية والبيولوجية بطريقة آمنة ومتبادلة بين الجنسين، كما أنه ضرورة تنموية وحضارية تحقق للمجتمع تماسكه وتوازنه بفضل الأسرة. وعليه فالخاسر من انهيار الزواج هو الرجل والمرأة والمجتمع معا، ولغة الأرقام الجسيمة من شأنها أن تدفعنا إلى التفكير بطريقة موضوعية لدراسة ظاهرة العنوسة، وإيجاد حلول علمية ومدروسة بدل تدبيج البكائيات المدرة للشفقة على النساء اللواتي لم يستطعن الحصول على زوج، ويصنفن ضمن لائحة العوانس. هذه الإحصائيات تؤكد أن نسبة الذكور والإنا? في المجتمعات، تتقارب في الحالات العادية أي خارج نوازل الحروب والأوبئة وغيرها، وبالتالي فارتفاع نسبة النساء العازبات لابد أن يقابله ارتفاع في نسبة الذكور العزاب، بل إن إحصائيات أجريت في مصر والإمارات العربية أكدت أن عدد العزاب يضاعف عدد العازبات/ العوانس وبالتالي فنحن بصدد معضلة اجتماعية أخطر من مجرد عنوسة النساء، وهي العزوف عن الزواج واعتماد أنماط بديلة للارتباط بين الجنسين تنتهي بنا إلى مجتمع إباحي تشاع فيه المرأة وتحرم من حقها الطبيعي في الحياة العفيفة صحبة زوج وأطفال يشيعون داخلها عاطفة الأمومة. في القرآن الكريم: المرأة تستر الرجل كذلك..؟ وبهذه النظرة الشمولية يعالج القرآن الكريم مفهوم الزواج والعنوسة بالنسبة للزوجين، وإذا كانت الثقافة التي تكيل بمكيالين، تعتبر أن المرأة وحدها تحتاج إلى ستر الرجل الذي هو في غنى عن هذا الستر، فإن الله سبحانه وتعالى يوضح لنا أن مفهوم الستر متبادل: «هن لباس لكم وأنتم لباس لهن» سورة البقرة الآية 187. ويحض القرآن الكريم على تزويج العزاب والعازبات في المجتمع الإسلامي: «وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم، إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم» سورة النور الآية: 34. وتشمل الدعوة إلى التزو?ج كذلك، الأرامل والمطلقات والعبيد والإماء المتواجدين آنذاك في كل المجتمعات. مقابل ذلك شدد الإسلام النفير على الانحراف الجنسي أو الزنى، واعتبر العلاقة الجنسية خارج مؤسسة الزواج فاحشة، كما سوى بين الرجل والمرأة في تحمل مسؤولية هذا الانحراف، ولم يعتبر «الذكورة» هي الضوء الأخضر الذي يجمل العيوب والنقائص المادية أو المعنوية، الحاملة لبذور الجاهليات القديمة. من شأن هذا أن ينعش مؤسسة الزواج، بل وتدعم استقرارها، فالشباب اليوم، كثيرا ما يعزف على الزواج أو يؤجله، فلم تعد تشده إليه الحاجة الاضطرارية العاجلة مع توفر قنوات غير شرعية لتصريف الغريزة الجنسية.. وفي ظل ارتفاع تكاليف الحياة، وانتشار البطالة وضعف الوازع الديني، وشيوع القيم الاستهلاكية، تتسع ظاهرة العزوف عن الزواج، صانعة مجتمعا متمزقا لا تربط بين أفراده روابط إنسانية، بقدر ما ينكفي كل فرد على نفسه باحثا عن سعادة وهمية خارج الأسرة.. فمتى نعتبر العنوسة مشكلة مجتمع، وليست مشكلة امرأة؟