لم ينحصر الحديث الصحيح في صحيحي البخاري ومسلم، فقد نُسب إلى الأصحيّة عددٌ من المصنفات، أشهرُها وأولاها بذلك موطأ الإمام مالك(179ه) رحمه الله. فقد قال فيه الإمام الشافعي(204ه) رحمه الله، بأنه أصح كتاب بعد كتاب الله، وذلك قبل أن يُصنف البخاريُّ صحيحه بوقت طويل. فَلِمَ قلت في الحلقة السابقة بأن فضل السبق في إفراد الصحيح كان للبخاري ؟ دعاني لذلك ما عليه جمهور المحدثين من أنه لا يُسمى صحيحا إلا الحديثُ الذي جمع شروطه الخمسة المعلومة، وأن يصرح المحدث بالأسانيد كي يدرسها النقاد. ومن المعلوم عند العارفين بالحديث أن الإمام مالكا رحمه الله قد سكت مرة عن ذكر الصحابي – وهو ما ينتج عنه الحديث المرسل الذي هو نوع من انقطاع السند – ومرة كان يُعضل الحديث أي يسكت عن ذكر أكثر من راو في السند، ومرة يسكت عن ذكر السند كله ويقول: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال. وهذه الطريقة التي نهجها في بعض أحاديث الموطأ أثارت الخلاف في عدّ الموطأ من كتب الصحيح مطلقا، وذلك ما دعا أحد المحدثين الكبار وهو الحافظ ابن عبد البر(463ه) إلى أن يصنف كتابه «التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد» الذي عمل فيه على وصل كل حديث فيه نوع من الانقطاع في الموطأ، وعددها قليل بالنظر إلى مجموع الكتاب. فثبت بالدليل أن كل أحاديث الموطأ بريئة من الانقطاع، ولهذا قال السيوطي(911ه) رحمه الله في «تنوير الحوالك شرح موطأ الإمام مالك»: «فالصواب إطلاق أن الموطأ صحيح لا يستثنى منه شيء». وقد صُنفت كتب أخرى في الصحيح، ولكن لم يسلّم لأصحابها في ذلك بالنظر إلى مجموع الكتاب، كصحيح ابن خزيمة(311ه) وصحيح ابن حبان(354ه) والمستدرك على الصحيحين للحاكم(405ه) وغيرها. واعلم أن كثيرا من الأحاديث المروية في كتب الحديث المختلفة، التي لم يصرح أصحابها بالأصحية في عنواناتها، قد جمعت شروط الحديث الصحيح الخمسة، ومنها شيء كثير في مسند أحمد(241ه) والسنن الأربعة وغيرها، وحرر اللكنوي(1304ه) رحمه الله في كتابه «الأجوبة الفاضلة»، أن أكثر السنن الأربعة تضمنا للصحيح سنن أبي داود(275ه) ثم سنن النسائي(303ه) ثم سنن الترمذي(279ه) ثم سنن ابن ماجه(273ه). والله الموفق للصواب.