يحتاج النقاش الجاري حاليا حول الحريات الفردية إلى كثير من التأمل بغية الاستفادة منه في رسم مسيرة الوطن. فتناسل الردود المسجلة من طرف العلماء والخطباء والمثقفين على الدعوات العلمانية الاستئصالية، وكثرة المقالات والدراسات المنشورة سواء في الصحافة المكتوبة أو على مواقع الإنترنت المختلفة، وتوالي الدعوات العنكبوتية المنافحة عن القيم الاجتماعية، مما دفع أحد زعماء العلمنة إلى التراجع عن رأيه الموثق بالصوت والصورة وتأويله حتى لا يصادم الرأي العام، يثبت أن للمجتمع مشتركا جمعيا يصعب هدمه أو المس بقدسيته وإن كانت المسلكيات الاجتماعية أحيانا تخالفه لكنها تضمر رفضا شعوريا لممارسته ولو قوليا. وفي هذا الإطار يمكننا قراءة حماسة بعض الدعاة والمتصدين للشأن العام في مقاربة الموضوع. في التأريخ لهذا الصراع ينبغي أن نفهم أن القطب الاستئصالي ليس إلا تجسيدا لصراع أعمق بين منظومتين قيميتين: منظومة تعلي من شأن المعنى والهوية المتسامية حسب تعبير غارودي، وأخرى تأخذ الكائن الإنساني باعتباره الحيواني البهيمي الفاقد لكل معنى والمستسلم لحتميات السوق والطبيعة، وتنظر للقيم باعتبارها تشكلا ماديا ولدته العلاقات الاجتماعية والصراع مع الطبيعة، وليست منزلة وفق ناموس كوني أزلي. وفي الوقت الذي تعيش فيه هذه القيم البهيمية تراجعا بسبب عدم احترامها لقدسية الإنسان سواء من حيث قوتها الرمزية أو قدرتها التدبيرية، نجد سدنة الفرنكفونية عندنا يهللون لها للحفاظ على وجودهم الشخصي ومصالحهم الذاتية التي بدأت تبدو للعيان مع كل ملفات الإصلاح التي تفتح. لذا فمواجهة هذا المسار ينبغي أن تبنى على عناصر أربعة: 1 الاقتناع بأن النقاش في جزء كبير منه اجتماعي يتعلق بوجود المجتمع ومنظومته القيمية وبمنطق التدافع، لكنه في الجزء الخفي يرتبط بالجانب السياسي، ففتح هذا الملف وفي هذا التوقيت بالذات لا يخلو من دوافع سياسية وإيديولوجية تتعلق بتطورات المشهد على الصعيدين الداخلي والعربي، وتوالي انتصارات القطب الهوياتي في تسيد المشهد السياسي. لذا فليس مفاجئا أن يصاب الخطاب الاستئصالي بالنكسات المتتالية حين يضع نفسه في محك الديمقراطية، فيلجأ إلى آليات الدولة العميقة لتمرير مسلكياته. مما يعني أن المشهد مؤهل للكثير من التصعيد المجتمعي قبل السياسي وأن وصول الإسلاميين لن يسكت دعاة الاستئصال وإن حاصرهم وأبان عن حقيقة تمثيليتهم. 2 يلزم الانتباه إلى خطورة الدخول في متاهة المواضعات الاصطلاحية. فمن المسلم به أن الاصطلاح هو باب المعرفة وأن المصطلح هو رمز لغوي محدّد لمفهوم معيّن، أي أنّ معناه يرتبط بنظام المفاهيم المؤسس لنظام القيم. لكن تغيير عناوين العلاقات الاجتماعية ووسمها بمصطلحات تعطيها شرعية الوجود يحرف الحقيقة وينقلها إلى مجال الحريات بدل جوهرها الإفسادي. فالدعارة والعهر غدت حرية جنسية، والشذوذ الجنسي واللواط أصبحا مثلية ..... لذا فالمطلوب هو إعادة العناوين إلى دلالاتها الحقيقية. 3 ينبغي الاعتراف بأن الإعلام مازال بعيدا عن انتمائه ومعبرا عن فئة تسيدت المشهد منذ عقود وتحاول توجيه المجتمع نحو انتماءات بديلة. لذا فما فعلته القنوات المسماة "عمومية" في مسار النقاش وما اقترفته من محاولة لتوجيهه نحو تخوين القطب الهوياتي يثبت انفصاله التام عن المجتمع. لذا فإصلاحه غدا ضروريا وأكيدا ومستعجلا. 4 الفساد ملة واحدة. لذا فالدعوات الحالية هي محاولة من مسمى الدولة العميقة لإشغال الرأي العام عن ملفات الفساد المالي والإداري التي بدأت تنتقل إلى ساحات التصفية القضائية. ويكفي أن نتذكر ما أثير حول إصلاح القطب العمومي في الإعلام والذي حرف عن مقصوده باسم الحرية والانفتاح، وتبين فيما بعد أن الخشية كانت من دمقرطته وفتحه على المحاسبة المالية والإدارية. فالفساد ملة واحدة وإن تعددت العناوين. انطلاقا من هذه الاعتبارات يمكن النظر إلى مسار النقاش على أنه مواجهة حتمية بين مجتمع متمسك بمبادئه المؤسسة لوجوده ونخبة استغلت علاقاتها الداخلية والخارجية وفق منطق الكانتونات لتفرض عليه قيمها المستوردة. ولا يمكن النظر إلى النقاش برؤية مؤامراتية فقط، بل يجب الاعتراف أنه فتح أمام المجتمع حقيقة النخبة التي تملكت لعقود مصير الإعلام والثقافة والمجتمع. فيوما بعد يوم بدأت تتضح نتوءات الخطاب الاستئصالي الذي يستعمل آليات الحقوق والفن والثقافة وغيرها ليوجه أذهان المجتمع الرافض لها. وإذا كانت معالم القطب الهوياتي قد أخذت تتجلى من خلال التوافق بين القوى المجتمعية المختلفة على مواجهة خيار العلمنة، فإن الواجب أن تنتفض كل التيارات التي تعبر عن هذا الخيار. فالوقت لم يعد محتاجا إلى التصنيفات التقليدية التي جعلت كل ينزوي في انتمائه، بين سلفي ومتصوف ومحافظ وتقدمي ومنهاجي وحركي...وغيرها، لأن الأمر متعلق بوجود الأمة وليس بخيارات سياسية أو فقهية.