يصرّ رشيد الضعيف في روايته "تصطفل ميريل ستريب" على فضح اللحظات السخيفة وتعرية التفاصيل الصغيرة. وإذ يفعل, يخلص لمسيرة روائية طويلة التزم فيها خط الفضح والتعرية بلا تردد أو ملل. ومع كل رواية يصدرها الضعيف نزداد اقتناعاً بأن هذا الروائي أشبه ما يكون بالمتلصص الذي يهوى البصبصة على الناس في أكثر اللحظات حميمية وخصوصية. لكن عملية السرد الدقيقة تظهر كم أن الخصوصية ليست كذلك في الحقيقة, بل إن الحالة التي يظن المرء أنها خاصة به تبدو مع رشيد الضعيف حالة عامة منتشرة ومستشرية فيتساءل القارئ إذذاك لِمَ لا يعترف الجميع بها!يكفي أن نذكر من الرواية بعض العناوين لنختصر أحداثها: الزوج والزوجة والحماة، التلفزيون الياباني والرئيس الأميركي والعشيق الفرنسي, الصحن اللاقط أفلاماً جنسية، والخياطة المحرومة من الجنس وأخوها الذي يتاجر بحرمانها, ميريل ستريب وزوجها وابنها... وقد تطول لائحة المثلثات. إلا أن ما يعنينا منها الآن أنها تدور في محيط ضيق جداً هو منزل من منازل بيروت. صحيح أن الرجل, سيد البيت, صار في إمكانه أن يعرف بالحدث لحظة وقوعه في أي بقعة من العالم, لكنه بقي عاجزاً عن معرفة ما يدور في رأس زوجته, عاجزاً عن معرفة ماضيها قبله وحاضرها معه, حتى أنه لم يحدس بقرارها الابتعاد عنه بعدما تخلّصت من الجنين الذي كاد يربطها به. ميريل ستريب كانت أقرب إليه منها. كان يستطيع أن يراقب الممثلة من دون خوف أو تردد, ومع أنه لا يعرف اللغة الانكليزية إلا أنه استطاع أن يفهم فيلم "كرامر ضد كرامر" بلا ترجمة. أما مع زوجته فالأمر على عكس ذلك تماماً, يتخاطبان باللغة نفسها ولا يتفاهمان, يقيمان في المنزل نفسه ولا يلتقيان, لو أراد أن يمارس معها ما يرغب في ممارسته من أنواع الاكتشافات الجنسية كان عليه ان ينتظر غرقها في النوم (وقد يلجأ إلى تخديرها) كي يتجوّل في خفايا جسدها الذي قد يخبره بما لم يبح به اللسان. وسائل الاتصال الحديثة نجحت في تقريب البعيدين وإبعاد القريبين, واللغة صارت مطلوبة للفهم لا للتفاهم, وللتأثير لا للتأثر, فالزوج يريد ان يتعلم اللغة الإنكليزية ليفهم ما يقال على شاشات التلفزيون العالمية, والزوجة تريد أن تحفظ مفردات جنسية باللغة الفرنسية رغبة في إمتاع الشريك الفرنسي. تؤكد الرواية إذن على دور اللغة الانكليزية المسيطر على الصعيد الفكري (لن ننسى كتاب رشيد الضعيف "ليرننغ انغلش") أما اللغة الفرنسية فترك لها الدور العاطفي المؤثر, ما يُغيّب اللغة العربية بطبيعة الحال. من ناحية أخرى, تتابع الرواية رصد إشارات الذكورة المتمثلة برجال يستحق كلٌّ منهم أن يكون الرجل الأول لا في حياة المرأة بل في جسدها أولا, بل في مكان واحد منه: "يبقى الرجل رجلا والمرأة امرأة. وعلى المرأة دائما وأبدا أن تستجيب لزوجها عندما يناديها ويجب أن تطيعه في الامور الحاسمة حتى لو كانت هذه الطاعة مكلفة نفسيا بالنسبة إليها, لأن هذه الكلفة النفسية تعوض بسرعة, حالما ترى المرأة زوجها عاد إلى حلمه ورأفته وعفته" (ص 341). أما الأنوثة فتبدو إما شبقية الهوى صريحة الرغبات (تبدو الاشارة في الرواية إلى الفنانة صباح والروائية حنان الشيخ محاولة لاختصار النساء المعبّرات بلا تردد عما يفترض أن يكون دفينا) أو خبيثة متوارية خلف حجاب التقاليد والممنوعات فتتحايل على الرغبة تشبعها ولا تعلن, تطلق العنان لأكثر الاحلام جرأة ولا تعترف, تستسلم مع أنها تبدو متمنعة, أو تتمنع وهي تطالب بالمزيد, إنها "عذراء ولكن" (عنوان فيلم مصري). في رواية رشيد الضعيف تبدو قصة الزوجين نسخة مشوهة عن فيلم "كرامر ضد كرامر" الذي نجح في تصوير فشل العلاقة الزوجية الأميركية من غير أن يطاول الفشل الزوجين نفسيهما, ونجح رشيد الضعيف في تصوير عجز الزوجين اللبنانيين عن تقليدهما فكان الفشل الذي أصاب الجميع دون استثناء: الزوج الذي انطلقت رجولته من عالم ألف ليلة وليلة وانتهى إلى أفلام التلفزيون الإباحية، اتهم بالاعتداء على الخياطة، والزوجة التي كانت تمضي أيامها أمام التلفزيون هربت إلى الخليج بعدما أجهضت الجنين، علما أن ميريل ستريب وداستين هوفمان لم يسمحا إلى حد كبير لمشكلاتهما الزوجية بالتأثير على استقرار وحيدهما "من منهما الاميركية? هي ام ميريل ستريب? للغربيات الصيت ولها الفعل. هن يمثلن أفلاما سينمائية ونحن نطبق!" (ص 48). لا تدع شخصيات الرواية أي انطباع إيجابي - على عكس بطلي الفيلم - ولا يثير البطلان الإعجاب أو التعاطف: سلبيان بلا موقف أو قضية أو طرافة ولم يخفف من ذلك أن يمنح الكاتب اسمه للزوج "المخدوع" الذي تناديه حماته "رشود" (ص 8).نجح رشيد الضعيف فعلا في تصوير بطلين ثقيلي الدم لكن ذلك لا يعني أننا لا نشبههما, أحيانا._________________________ عن صحيفة النهار