الإعلام تحت القصف معاناة الصحافة بالمغرب لم تكن وليدة سياق يحمل تكثيفا خطابيا إزاء الإرهاب، بل معاناتها ارتبطت بطبيعة منظومة سياسية، قطع لعبها تتحرك استراتيجيا نحو انتصار الإجماع وقتل الاختلاف. ولطالما وظفت الدولة في صراعها أقلاما ومؤسسات إعلامية يتماهى خطها التحريري مع خطاب الرسمي للدولة، بما يضفي عليه شرعيته وصدقيته. ففي سياق مرحلة الرصاص استخدمت ترسانة زجرية مكثفة ضدا على أصوات مقلقة ومؤسسة لخطاب الاختلاف، فالسياق كان عموما يتميز بمعاداة ومكافحة الفكر النقدي، وإذا كان المشهد الإعلامي هو جزء من هذه المنظومة الفكرية، فإن مجاله يدخل في إطار الاستهداف الاستراتيجي للدولة. في هذه الفترة لم يكن ممكنا الحديث عن إعلام هكذا دون استحضار خلفيته السياسية، مما يعني أن الاستقلالية تتسع وفق معايير امتلاك لآليات الفضح للواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي.. وتتقلص بالارتباط عن تعاليم وتوجهات الدولة...ومن ثمة فطبيعة الخطوط الحمراء حسب منطق الدولة سياسيا وكما هو منصوص عليه دستوريا يتوسع بمقدار جرأة الفضح الإعلامي ليتوغل في غموض تجريدي يفقد معه المعنى ماهيته، الأمر الذي يولد تشويشا في النظر لإشكالية كل ما من شأنه. وعليه، ظلت منابر إعلامية مثل المحرر، أنوال، المسار، الأفق، المواطن...محط مطارة ومشاريع اعتقال... أما من خلال سياق، تكثف فيه الحديث عن مفهوم الانتقال الديمقراطي وفتح أوراش الإصلاح، تميزت سنة 2002 بالمصادقة البرلمانية على مشروع قانون الصحافة والنشر. وإذا كان قانون الصحافة قد سعى إلى تقليص الترسانة الزجرية وأعطى ضمانات بموجبها يتمتع الصحافي بالحق نحو الوصول إلى مصادر الخبر وتوسيع سلطة القضاء وتعليل قرار حجز الصحف... فإنها تظل باهتة أمام 27 مادة حسب منظمة مراسلون بلا حدود التي تتعارض مع المقاييس العالمية و لا سيما في رفع العقوبات عن جنح الصحافة. أما منظمة هيومان رايش، فاعتبرت أن انتقاد الصحافة للسلطات، يظل مقيدا بفعل قانون الصحافة الذي يفرض أحكاما بالحبس في حالات القذف، وعلى كل ما يمس الإسلام أو المؤسسة الملكية أو وحدة الترابية. ويبدو أن التعديلات التي أجريت على قانون الصحافة قد خلقت نقاشا خلف أطروحتين تتراوح بين منافح ورافض، لكن مشروع قانون الإرهاب، الذي عجلت أحداث 16 ماي 2003 بالمصادقة عليه (يونيو2003)، قد حسم فرصة اختمار النقاش حول تعديلات قانون الصحافة وحوصر المشهد الإعلامي بعد أحداث ماي بين مطرقة قانون الصحافة وسندان قانون الإرهاب، باعتبارهما نصوص مثقلة بالعقوبات السالبة للحرية، فما ميز هذا السياق هو شدة المتابعات القضائية والغرامات المالية الخيالية وسلسلة من الاعتقالات..استهدفت بالأساس المنابر الإعلامية المستقلة.المفارقة التاريخية إن تشديد التضييق على الصحافة طبع بامتياز مسار حكومة التناوب 14 مارس 1998 ، إذ استهلت حكومة اليوسفي حملاتها العقابية أولا ضد محيطها الإعلامي، فالحوار الذي أجراه عبد الرحيم أريري مع محمد الساسي كان كافيا لاستصدار قرار التوقيف في حق أريري لمدة ثمانية أيام مع الخصم من راتبه. أعقبه منع دفعة واحدة الصحافة المستقلة ( الصحيفة- لوجورنال - دومان) ثم توالت سلسلة من الاعتقالات استهدفت كل من محمد المرابط ( قضية الحجر المقدس) ومصطفى العلوي، ومحمد الهراد، مصطفى قشني مدير جريدة الحياة المغربية وعبد المجيد الطاهر رئيس تحرير جريدة الشرق....أما الاختطافات فقد استهدفت الصحفي الحسين المجدوبي فيما يعرف بملف الرماش... كان المشهد الإعلامي مؤشر قياس للإرادة السياسية لحكومة التناوب التي تعتزم خوض معركة الإصلاح السياسي، وأمام أزماتها وانتكاساتها سواء في النشأة أو المسار عملت على إنتاج بطش السلطة السياسية التي كانت ضحية له، بالإجهاز على الكلمة المكتوبة وفي فتل المساهمة النقدية للإعلام ، ويبدو أن جدلية السلطة والعقاب مشترك ثقافي قبل أن يكون سياسي، خصوصا أمام حضرة الإبداع لخلية التتبع لما تنشره الصحافة والتي كان من توقيع الاشتراكي المرحوم بوزوبع.مراتب الإعلام لقد ساهمت أحداث الدارالبيضاء 16 ماي 2003 في ظهور بؤر إعلامية انفردت برسم صور ذاتية عن خطها التحريري، فغابت المهنية وطفح على السطح مظاهر لا تعكس مضمون رسالة الصحافة، ومن ثمة أمكننا الوقوف عند مظاهر الخلل في المشهد الإعلامي:الإعلام الإستئصاليلقد رفع الإعلام الحزبي جاهزينه لخوض معارك بالإنابة، قصد تصفية حسابات مع تيارات إسلامية معتدلة تحمل في أدبياتها السياسية دعوات صريحة لنبد العنف، وبالرغم من حالة الحصار التي انو جدت بداخلها كوسيلة لعزلها عن باقي المكونات الحزبية، فقد عقدت العزم على تنظيم تظاهرات احتجاجية ضد الإرهاب. فالإعلام الحزبي لسان حال بعض الإطارات السياسية تماهى مع تصريحات قادته محملا المسؤولية المعنوية فيما حدث لهده التيارات، اعتبارا لمرجعيتها الفكرية التي تشكل أرضية تفريخ للإرهاب. ومن ثمة ظهرت أطروحة الاستئصال وتجفيف المنابع، وخلف هذه الأطروحة انساق الإعلام الحزبي يصوب ضربات استباقية تخفي الهاجس الانتخابي. وإذا كان الإعلام السمعي البصري والمكتوب تعامل مع أحداث الدارالبيضاء بنوع من الصدمة أدت إلى ارتجال فظيع في نقل الخبر. فإن أقصر طرق سلكه الإعلام الحزبي هو ضرب مواقع مهددة لعجز إطاراته السياسية... الإعلام العقابيتتأسف المنظمة المغربية لحقوق الإنسان لكون بعض الصحف رغم إمكانياتها المهنية، انزلقت إلى إصدار أحكام مسبقة على المتابعين، ولم تأخذ أحيانا مسافة مع مصادر الخبر بحثا عن تعددية المعلومات والآراء، فلم تراع أخلاقيات المهنة، ولا حقوق أشخاص تفترض براءتهم إلى أن يثبت عكسها بحكم القضاء، وفي شروط تراعي محاكمة عادلة.فحينما تختل ضوابط المهنة وأخلاقيتها تختل الأدوار وتتماهى شخصية الصحفي مع عقلية أمنية تغيب معها رسالته التي هي في الأصل البحث عن الحقيقة" احتراما لحق المواطن في إعلام صادق". ولطالما صدرت أحكام إعلامية بالإدانة قبل أن يقول القضاء كلمته، الأمر الذي يتنافى مع البند الرابع من ميثاق الهيئة الوطنية المستقلة لأخلاقيات الصحافة وحرية التعبير، والذي يقضي بأن لا تنشر ولا تبث ولا تداع إلا الأخبار والوثائق والصور الموثوق بها، مع اجتناب المعطيات غير الدقيقة، وخصوصا التي من شأنها الاستخفاف بشرف الأشخاص..الإعلام الصامتأمام قضية الصحفي حرمة الله ومصطفى العلوي وجريدة المساء وقبلها لوجرنال...كان المشهد يبدو طبيعيا لو تظافرت كل مجهودات الجسم الصحفي للإعلان عن تضامنها المطلق واللامشروط وفي اختيار وإبداع طرق متجددة كشكل من أشكال التضامن تقوي الصف الإعلامي وتقطع الطريق عن أعداء الكلمة المكتوبة التي ما فتئت تمرر أشكالا مخيفة تهدد المشهد الإعلامي، لكن الإعلام الصامت يتغذى من قراءات سياسية مضللة وأخرى نفعية تقوم، بشكل أو بآخر بممارسة تخريبية لهدا الجسم .الإعلام الصامد وتبقى هذه المراتب من حيث تمفصلها الإجرائي في علاقة متداخلة ومتشابكة، لكنها بالأساس سالبة لهوية الإعلام وأهدافه النبيلة - شأنها شأن القوانين الزجرية السالبة لحرية التعبير- بالمقابل فالصحافة المستقلة ممانعة صامدة في وجه الإعصار الزجري، وقودها التضامني الحركية المجتمعية ودينامية الإطارات المدنية...تواجه ضريبة جرأتها واختياراتها، شعارها الفضح وكسر الطابوهات ونبش المسكوت عنه.وإذا كان الاحتقان الشعبي يولد نخبا طلائعية تقوم بدورها التاريخي كقطاع القضاة في مصر وقطاع المحامون في باكستان... فالإعلام المستقل بالمغرب يركب بدوره مغامرته التاريخية بمقتضى قانون الطبيعة التي يرفض الفراغ.