هو عراق بات وهمياً ذاك الذي فجّرت أوصاله آخر السيارات الملغومة يوم الاثنين الفائت. ماذا؟ هل صمد شارع المتنبي أمام الهول الذي فتك بالعراق، ما زال يعرض كتباً على الرصيف وفي المكتبات، ما زالت أرصفته، مكتباته، مقاهيه، ملتقى للمثقفين والأدباء... يخرج غوبلز مسدسه، تعدم السيارة المفخخة معنى الشارع. يُصيب العصف أول ما يصيب جامع الحيدرخانة. من باحته كانت تخرج كل المظاهرات الوطنية والاحتجاجية، منها انطلقت أولى مظاهرات ثورة العشرين وسقط أول شهدائها. كان عاملاً لم يعد أحد يذكر اسمه. ثم يصيب العصف جامعة المستنصرية التي تستوطن في تجويف إحدى قبب مداخلها وطاويط تطير في وجه الداخل إليها فتذكره انه في حضرة التاريخ أكثر مما تخيفه. لا، ليست الجامعة المستنصرية الحديثة التي طالها انفجار منذ شهر...أو أقل أو أكثر – من يحصي الانفجارات في بغداد أو يسجل تواريخها؟ - فقتل طلابها، وتحديداً طالباتها إذ استهدف جناح إقامتهن. سيارة الاثنين الفائت طالت تلك التي بناها الخليفة العباسي المستنصر بالله وأعطاها اسمه. في قربها سوق الاستربادي، أهم أسواق الرصافة حيث محال الأقمشة والصاغة وسوق «الصفافير»، طرق صنّاع النحاس الذي ألهم الفراهيدي، فدخل الإيقاع في ضبط أوزان الشعر العربي مثله مثل وقع أقدام النوق. الاستربادي يؤدي إلى شارع النهر. هناك كانت تقوم الفنادق الجميلة المطلة على دجلة الخير بحسب الجواهري، وأرصفة ومقاهي النزهة المكتظة بالفتيات الجميلات الحاضرات بثقة وخفر، مزيج تتقنه العراقيات من دون سواهن. هناك «قديماً»، أي قبل حلول نظام الاستبداد الكاره للثقافة والحرية والعمارة وانسياب التاريخ. فلنقل إذاً قبل نصف قرن، قبل أن تصادر القيادات ضفتي النهر، واحدة لإقامتها والثانية لحراسة تلك الإقامة، ولأبنية تفترض في نفسها حداثة ما، وهي ليست سوى عدواناً فجاً على الذوق. يدمر الانفجار مكتبات شارع المتنبي عن بكرة أبيها، والمطابع أيضاً. اسم المتنبي فرضه اكتظاظ الشارع بالمكتبات وما يلحق بها من نمط حياة. كان ذلك في ثلاثينات القرن الفائت. لم يكن ممكناً أن يكون اسمه إلا المتنبي. أما الشارع فقائم هكذا منذ العصر العباسي. لا تقدّر بثمن الكتب المحترقة وسط جثث أصحابها ومحبيها. يرثي نعيم الشطري الكتب. هو مسؤول مزادها. ففي شارع المتنبي مزاد على الكتب يعقد كل يوم جمعة. أنقذ نعيماً أن حكومة السيد المالكي في خطتها الأمنية الجديدة، وهي إحدى التجارب الأميركية التي تمر على بغداد منذ ثلاثة أسابيع، منعت التجول في شارع المتنبي يوم الجمعة، أي في يومه الأهم حين يرتاده بكثافة لا يعادلها يوم آخر، المثقفون وبالأخص منهم الصعاليك – إحدى سمات الشارع – والطلاب، لابتياع ما يمكنهم ابتياعه من مكتبات الرصيف. وهناك، كما في المكتبات المبنية، تختلط الموسوعات والكتب الدينية والتاريخية النادرة بالكتب الأدبية والفكرية الحديثة، تلك التي قام المثقفون العراقيون باستنساخها على مدى سنوات المنع والحصار، وتلك التي باعها أصحابها من المثقفين حين تضوروا جوعاً. كانت مكتباتهم الشخصية آخر ما باعوه بعد الأثاث والأبواب الداخلية الفائضة عن الحاجة، وكل ما وقعت أيديهم عليه سواها. ثم باعوا كتبهم كي لا يموت أطفالهم من الجوع. حينها ناحوا ولطموا كما يعرف العراقيون وحدهم اللطم والنواح. وعادوا يترددون عليها في الشارع، يقلّبونها، يقبّلونها، ويطمئن قلبهم وتسكن بعض جوارحهم. ها هي تذهب إلى الأبد. حوّل الانفجار شارع المتنبي إلى خراب. فيه تأسست مكاتب جريدة «التآخي» الكردية ذات يوم، وتمرّس على الكتابة شاب كان اسمه جلال الطالباني. ما زال اسمه جلال الطالباني، ولكنه أصبح رئيس الجمهورية التي استحضرت القوات الأميركية إلى العراق. بات الرجل نفسه يعيش في «المنطقة الخضراء» بحراسة الأميركيين.عام 1258، لوّن هولاكو مياه دجلة بحبر الكتب التي ألقاها في النهر. يعرف كل الناس الواقعة. ويعرفون بالخبرة أن العراق ينطوي على روح حية مدهشة تماماً. فإن اختزلنا الزمن، نذكر فحسب أن محمد مهدي الجواهري كان يكتب قصائده في أحد مقاهي شارع المتنبي ويتقاتل من هناك مع الرصافي. وأن تلك القصائد، وذاك الخلاف، كان شأناً عاماً يتداوله ويهتم به المجتمع العراقي برمته. لعل العراق البلد العربي الوحيد الذي يشكّل المثقفون فيه طبقة اجتماعية قائمة بذاتها، تخترق مقاييس الثروة والطائفة والمنطقة والعشيرة والايديولوجيا. لعله البلد العربي الوحيد الذي تشكّل فيه الثقافة قيمة عليا، تحوز مرتبة من الاحترام تفوق كل ما عداها. ألهذا يتضافر عليه القتلة؟ أم يكفي وجود النفط لتفسير مصير العراق المأسوي، كما يميل للقول الجهلة من الخبراء الأجانب! كان ضبط حيوية العراق يحتاج نظاماً قوياً وفرّه صدام حسين، الذي أعمل في أبناء العراق جزاً، وأعمل سحقاً لكل تعبيراته، وحروباً متلاحقة حتى أنهكه. فالعراق لا يُحكم، وقد جرّبه الحجاج الثقفي فمات في حسرته، وأسرع الانكليز الدهاة إلى منحه استقلالاً ذاتياً ليأمنوا شرّ تمرد أبنائه الدائم. أما الأميركيون فغزوه بخفة لا يُحسدون عليها، وتورطوا فيما يتجاوزهم، وها هم اليوم يلجؤون إلى محاولة السيطرة عليه بواسطة سحقه وتدميره، وقد حوّلوا ما كان تبقى منه إلى خراب، ويحوّلون تجربتهم التعسة فيه إلى نظرية، إلى أسلوب يطبقونه على سائر المنطقة، بدلالة ما يرتكبون في لبنان القابل بيسر للاشتعال، وما يخططون لسائر الأماكن. وفي هذا، يجدر استطلاع ما كتبه الصحافي الأميركي المعروف سيمور هيرش في عدد أخير من مجلة «نيويوركر»، وقامت جريدة «السفير» اللبنانية بترجمته حرفياً ونشره يوم 26 من الشهر الفائت. ولكن مقارنات أخرى تفرض نفسها. فجماعة «القاعدة» في العراق يتبنون الأسلوب الأميركي نفسه في سياق خطتهم المزعومة لمقاومة الاحتلال: يحوّلون البلد إلى خرابة، يعطّلون كل حياة فيه، فيُفشلون السيطرة الأميركية! وفي هذا، فهم لا يقهرون أنفسهم، ولا يمارسون ما يتناقض مع نوازعهم. إذ هم يكرهون على أي حال تلك الملامح الغريبة عليهم، كروح التمرد، وكقبول التعدد، وكالثقافة وكل ما يعود إلى الكتب، وكارتياد الجامعات والمدارس عموماً، وبخاصة من قبل النساء... وهؤلاء هم أنفسهم، وفي سياق محاربتهم للأميركيين في العراق، يتقاطعون مع توجس أميركي من الجماعات الشيعية التي يفترض بها القرب من إيران، العدو الصاعد، فتراهم يخدمون من قناة أخرى هؤلاء الذين يقاتلونهم! ولعل التشارك في خطة تخريب العراق يتجاوز مجرد تشابه الأساليب إلى احتمال التوظيف المتبادل. تقاطع آخر للخطوط : فالأميركيون الذين أسّسوا «القاعدة» في أحد تلك الأيام ليستخدموها ضد الوجود السوفياتي في أفغانستان ثم انقلبت عليهم، وأحدثت زلزال أيلول (سبتمبر) 2001، يؤسسون اليوم مجموعات أخرى ليستخدموها ضد ما يسمى النفوذ الإيراني في المنطقة أو ليوظفوها في حربهم المتوقعة مع إيران. وهم في هذا يتصرفون كساحر فاشل، ويخاطرون بانقلاب الجماعات الجديدة عليهم في يوم قادم. إلا أننا نحن هنا من يدفع الثمن الأعظم في هذه اللعبة الإجرامية، وقد قارب زحف الخراب الموعود حدّ الأفول المديد لحياة مجتمعاتنا، بمعنى الوجود المادي كما بمعنى إمكان تحقيق أي تقدم. هل سيفاجأ أحدٌ والحال تلك، من الحاجة إلى القيام بكل الممكن لإنجاح اتفاق مكة في خصوص الوضع الفلسطيني، والمحادثات السعودية - الإيرانية في خصوص الوضع اللبناني؟ تلك هي المهمة اليوم، وإلا شابهت المنطقة كلها شارع المتنبي التعس.