ضمن بضع مئات من آلاف المعتمرين هذا العام تلقي أحد قيادات حزبنا نسخة مجانية من كتيب بعنوان: كتاب التوحيد صادر عن الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرع منطقة المدينةالمنورة وأرجو أن يأذن لي القارئ أن أحتفظ باسم المؤلف معالي الشيخ الدكتور كما قدم معاليه نفسه للقارئ.وقد أكد زميلنا أن آلافا من نسخ هذا الكتيب وأمثاله قد وزعت ولمرات عدة علي جميع المعتمرين. ولما كنت ممن يعتقدون أن الكعبة المشرفة والمدينةالمنورة وفريضة الحج ومناسك العمرة ليست مجرد هبة ربانية للسعودية, لكنها مسئولية ثقيلة إزاء الله ورسوله, وإزاء الدين الحنيف فإنني أستأذن الجميع في أن استعرض بعضا مما ورد في الكتيب المذكور والذي يتلقفه المسلمون المعتمرون بشغف من يتلقي نفحة من نفحات الهدي الإسلامي الآتي من موطن الكعبة ومسجد الرسول.. ومهوى الأفئدة.الكتيب يعتبر أن التعددية الحزبية كفر وإلحاد. ويعتبر الأحزاب مجرد مكونات جاهلية.. فتحت عنوان حكم الانتماء إلي المذاهب الإلحادية والأحزاب الجاهلية( ص54) نقرأ والانتماء للأحزاب الجاهلية كفر وردة عن دين الإسلام لأن الإسلام يرفض العصبيات والنعرات الجاهلية, ثم.. وهذه الحزبيات تفرق المسلمين والله قد أمر بالاجتماع والتعاون علي البر والتقوى ونهي عن التفرق والاختلاف.. إن الله سبحانه يريد منا أن نكون حزبا واحدا هم حزب الله المفلحون, لكن العالم الإسلامي أصبح بعدما غزته أوروبا سياسيا وثقافيا يخضع لهذه العصبيات الدموية( أي رابطة الدم) والجنسية( أي رابطة الجنس) والوطنية( أي رابطة الوطن) ويؤمن بها كقضية علمية وحقيقة مقررة وواقع لا مفر منه.. وأصبحت شعوبه تندفع اندفاعا غريبا إلي إحياء هذه العصبيات التي أماتها الإسلام.. وهو الذي يلح الإسلام علي تسميته بالجاهلية( ص56).ونتوقف لنراجع هذه النصوص ونتأملها ولنكتشف أنها تكاد أن تكون منقولة نصا من كتاب معالم في الطريق للمرحوم الأستاذ سيد قطب.. والذي يعتبره متطرفو زماننا وإرهابيه الأب الروحي والمفكر الملهم لهم جميعا بحيث أصبحت التسمية المتعارف عليها للفكر الإرهابي المتطرف بأنه فكر قطبي.ولكن نسبة القول إلي قائل لا تعني بالضرورة خطأه. فلنفكر بعقولنا حول مدي صحة اعتبار الأحزاب بدعة جاهلية وأن الذي ينتمي إليها كافر مرتد عن دين الإسلام. فهل هذا صحيح؟.ألم يعرف الإسلام ومنذ بعثة الرسول الكريم الاختلاف في الرأي والاجتهاد في اللجوء إلي العقل؟ ونتأمل الآيات الكريمة لقوم يعقلون.. لقوم يفقهون.. لقوم يتفكرون وهي جميعا تفرض علينا إعمال العقل والرأي والفكر في أمور دنيانا. ولأن التفكير والتعقل إنما يأتي عبر عقل إنساني فهو بالضرورة نسبي الصحة والاختلاف معه وحوله أمر حتمي. ولا يمكن أن يكون هذا عملا علي تحقيق الفرقة بين المسلمين, بل لعله.. أو هو كذلك بالفعل.. دافع مؤكد للمزيد من توحد المسلمين عبر حوار متبادل واجتهادات شتي يكون الخلاف فيها حول أمور دنيانا سبيلا للرأي الأفضل والأصوب.ومنذ فجر الإسلام الأول أكد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه القرآن لا ينطق وهو مكتوب وإنما ينطق به البشر, وهو حمال أوجه.. فماذا لو اختلف المسلمون أو بعض منهم حول الأخذ بوجه من هذه الأوجه؟ وماذا لو تمسك البعض برأيه أو اجتهاده وأنكر علي الآخرين رأيهم واجتهادهم ومن ثم اتهمهم بالكفر والإلحاد؟ هل يؤدي ذلك إلي توحد المسلمين, أم إلي مزيد من الفرقة والتناحر؟.ولماذا إذن كان الحديث الشريف الصحيح الذي يقول أن الله يبعث لهذه الأمة علي رأس كل مئة من السنين من يجدد لها أمر دينها.. التجديد في أمر الدين هو إذن وبالضرورة فريضة إسلامية.. والتجديد يأتي عبر اجتهاد بشري يطابق بين النص والواقع المتجدد ويأخذ بالتأويل استناداً إلي قول الإمام النفري حيث تتحقق مصلحة الناس فثمة شرع الله. ولأن الاجتهاد بشري ولأن تقدير مصلحة الناس مسألة نسبية قد يصيب صاحب الرأس فيها وقد يخطئ. فإن الخلاف والاختلاف هو أمر حتمي ومطلوب.. ولا مجال للقول بأنه تفريق للمسلمين.وفي زماننا الحديث يكون البحث عن مصلحة الناس عبر دوائر شتي من بينها بالضرورة التعددية الحزبية, شريطة أن تكون جميعا ملتزمة بالأوامر والنواهي الواردة في القرآن والسنة, ثم تطلق في هذا الإطار العنان للاجتهاد وهو ما دفع الإمام أبي حنيفة إلي القول كلامنا هذا رأي, فمن كان لديه أفضل منه فليأت به.ثم.. ولو افترضنا جدلا بأن التعددية الحزبية خطأ.. أفليس من الواجب أن نقول أنها مجرد خطأ ولا يستدعي الأمر باتهام القائلين بها بالكفر والردة, بما يدفع بعضا من الطائشين إلي أن يحمل سلاحه لإنفاذ ما يعتقد انه حكم الشرع في المرتدين؟ فإن فعل ذلك فعلى من سيقع وزر ما فعل, هو أم صاحب هذا الرأي؟.ثم نأتي إلي نصوص أخري..لعلها أشد خطرا فالكتيب يصف الرأسمالية بأنها مذهب إلحادي( ص55) ويبرر ذلك بأن الرأسمالية همها جمع المال من أي وجه, ولا تتقيد بحلال ولا حرام, ولا عطب ولا شفقة علي الفقراء والمساكين, وقوام اقتصادها علي الربا ثم.. وأي عاقل فضلا عمن فيه ذرة من إيمان يرضي أن يعيش علي هذه المذاهب بلا عقل ولا دين غاية صحيحة من حياته يهدف إليها ويناضل من أجلها وأيضا إنما غزت هذه المذاهب بلاد المسلمين لما غاب عن أكثريتها الدين الصحيح وتربت علي الضياع وعاشت علي التبعية.وبهدوء أيضا أسال هل هو ملائم أن نتهم نظاما اقتصاديا يتربع علي المساحة الغالبة من الكرة الأرضية بالكفر والإلحاد؟ وهل يمكن اتهام مئات الملايين من المسلمين الذين يأخذون بالمذهب الاقتصادي الرأسمالي بأنهم كفرة ومرتدون؟.وهل يمكن تصور نوع من المقارنة أو حتى المقاربة بين تلك الآراء التي يرددها التكفيريون من أمثال أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وغيرهما والتي تقول بمثل هذا القول الوارد في هذا الكتيب.وهل يمكن أن نفكر في أثر رأي كهذا علي شاب يحمل سلاحه ليضرب دولة الكفر في كل بلد رأسمالي؟ أو ليطلق نيران عنفه علي كل رأسمالي.. أو كل من يأخذ بهذه المذاهب الاقتصادية أو حتى يعيش في ظلها راضيا بها.. أو غير مناوئ لها؟.ولعله لا يمكن اتهامي شخصيا بأنني من المتحمسين للأنظمة الرأسمالية, أو أنني أقبل بنظام لا يشعر ولا يكترث بالعطف أو الشفقة علي الفقراء والمساكين, لكن الاختلاف في الرأي والرؤية شيء والاتهام بالكفر شيء آخر.ولعلي أستشعر خطرا من أن يتمدد الفعل الإرهابي مستندا إلي أقوال كهذه.والكتيب الذي بين يدي يخلو من تاريخ طباعته, ومن هنا فإنني أفترض ولعله الافتراض من الأفضل أن يكون قد صدر في زمن قديم لم يكن الالتفات فيه إلي خطورة مثل هذه المطبوعات قد أستيقظ, ولم تكن المخاطر قد تراكمت.. ولكنني لا أنفي خطورة استمرار توزيعه وبكميات كبيرة علي معتمرين وحجاج يأتون من شتي بقاع الأرض يأتون إلي أرض الحرمين الشريفين سعيا وراء المزيد من الهداية.والحقيقة أن كتابات كهذه تغري وتحفز البعض من شباب غير واع بأمور دينه إلي التخبط في مهاوي الإرهاب. فإذا كانت الآليات الرأسمالية والتعامل بها ومعها كفرا وإلحادا وردة عن الإسلام فكيف نحمي من خطر الإرهاب مؤسسات تتمدد علي أرض المملكة العربية السعودية وتعمل وفق الآليات الرأسمالية, سواء كانت شركات أو بنوكا أو غير ذلك؟. كذلك فإن مثل هذه الكتابات تستدعي بالضرورة تحاملا غربيا ليس علي الكتاب ولا كاتبه ولا موزعيه وإنما ويا للأسف على الإسلام الذي يرفض هذه النزعة التكفيرية. ويحذرنا من الولوغ غير الحذر في التكفير.. وليس أمامنا سوي أن نعود في النهاية إلي الكتيب محل النقاش لنقرأ علي ظهر الغلاف ما يقول أنه من مهام هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وهي مهام تتسم جميعا بالايجابية والتمسك بالإسلام الصحيح.. فمنها.. إرشاد الناس وتوجيههم وحثهم علي فعل الخير العمل علي ما يحول دون إتباع المحرمات والممنوعات شرعا. حمل الناس علي أداء الواجبات الشرعية..ثم وهذا مهم.. والحرص علي أن تظهر هذه البلاد( يقصد السعودية) بالمظهر الحسن المشرف اللائق بها, بصفتها قلب العالم الإسلامي وقدوته, ومحط أنظار المسلمين.. فهل يعكس ما في هذا الكتيب مثل هذا الحرص؟وأخيرا.. ما أردت بهذه الكتابة إلا الحرص علي صورة الإسلام والمسلمين وعلي صورة دولة الحرمين الشريفين. حركة القوميين العرب