لم أكن يوما من محبي صدام حسين. لكنني أعترف أنني أحببت الرجل صباح يوم السبت، وأعتقد أنني سأحبه مدي الحياة. فتحت عيني وسمعت الأخبار في التلفزيون الذي غالبا ما أنسي إقفاله في الليل، وجاءني خبر إعدام صدام حسين فجر يوم عيد الأضحي كشلال ماء بارد. كانت الجزيرة تعيد صور الإعدام المسجلة بواسطة هاتف محمول، والمعلقون علي الحكم يتعاقبون علي مايكروفونات البرامج التي خصصت للحدث. بقيت مسمرا في الفراش وأنا أري صدام يدخل ذلك القبو المضاء بشكل سيء، وهو يتقدم بقدميه المربوطتين ومعطفه الشتوي الأنيق وشعره المبلل والممشوط علي عجل، وخمنت أن الرجل أخذ حماما سريعا قبل أن يأتي إلي منصة الإعدام. فصدام ظل حريصا طيلة محاكمته علي أناقته وسواد شعره الذي ظل يصبغه بانتظام. ُo o o بقيت في فراشي أتأمل الصور وهي تمر كما لو في كابوس. تساءلت مثل ملايين المشاهدين عن سر ذلك الاهتمام الذي كان يبديه أحد جلاديه برأسه المغطي بكيس أسود وهو يشرح لصدام بحماس طريقة الإعدام، كما لو كان يشرح له كيفية تدشين وحدة صناعية. يرفع يديه في وجه صدام شارحا، بينما صدام يحرك رأسه منصتا باهتمام، وفجأة يتنهد ويقول : يا الله، ويتقدم بثبات نحو حبل المشنقة، ويعلق ساخرا: - هاي، هاي مشنقة العار...يرفض صدام أن يغطي وجهه بالمنديل الحريري الأسود، ويضعه أحد الجلادين حول عنقه. للسواد دلالة خاصة في المعتقد الشيعي. إنه لون الحداد الأزلي علي علي. يسمع صدام أحد الجلادين يصيح مهللا :- مقتدي مقتدي مقتدي...فيتساءل ساخرا :- من يكون مقتدي ؟ أنا الذي بنيت العراق، هكذا تتعاملون معي...فيأتيه صوت آخر يقول له :- إلي جهنم وبئس المصير...فيختم صدام آخر ملاسنة له في حياته بعبارة تلخص مأساة الأمة الإسلامية قائلا :- هاي المرجلة...يعني أنهم يستأسدون علي رجل مقيد اليدين والرجلين يقف بحبل حول رقبته علي شفير الحياة. يحاولون إهانته حتي آخر ثانية من حياته، ويحرصون علي أن يسمعوه اسم قاتله، مقتدي الصدر. كأنما أرادوا أن يجعلوه يعرف، ومن خلاله كل العالم، أن الشيعة ينتقمون منه ويتشفون في موته بهذه الطريقة المهينة. وبالضبط فجر عيد الأضحي الذي احتفلت به السنة في العراق ذلك اليوم، فيما احتفل به الشيعة يوم الأحد. فقد أرادوا أن يتزامن يوم عيد السنيين مع إعدام صدام، حتي يتذكر السنة هذا الإعدام كل عيد مدي الحياة، وحتي يختلط دم صدام بدماء أكباشهم كل عيد.والمتأمل بعمق لمشاهد إعدام صدام وحمل جثته إلي قريته، يقف علي أوجه شبه كثيرة بين طقوس إعدام صدام وطقوس أضحية العيد. فقد أتوا به مكبل اليدين والقدمين، وعندما مات وضعوه في كيس بحيث ظهر رأسه وعنقه فقط وظهرت بقع الدماء علي الثوب الأبيض للكيس. وعندما أرادوا إرساله إلي الطائرة التي ستحمله إلي قريته استعملوا سيارة طويوطا، كتلك التي يحملون عليها الأكباش للسوق. تصوروا رئيس دولة سابقا يحمل نعشه فوق سيارة طويوطا. نعم لقد كان ديكتاتورا، لكن للأموات حرمتهم في ثقافتنا الإسلامية. فأن يعرضوا وجه صدام الملطخ بالدم أمام العالم وهو مغلف داخل كيس، كما لو كان خروفا مذبوحا، شيء مقزز ويعطي صورة واضحة عن الحكومة الحالية في العراق التي يرأسها نوري المالكي، أحد الذين ضغطوا حتي آخر لحظة لكي ينفذ حكم الإعدام فجر العيد.ُo o oلقد اختزلوا صدام حسين في مجرد وحش، ولخصوا للعالم حياته في ثلاث دقائق مصورة بهاتف رديء في قبو مظلم، وتركوا صور الإعدام تتناقل بين الهواتف يتبادلها الرعاع مع تهاني العيد. الأمريكيون عندما يسقط أحد أصغر عسكري من جنودهم يحملونه في سرية كاملة ويضعونه في صندوق مغطي بالراية ويعطونه التحية ويرسلونه مباشرة إلي قبر في الولاياتالمتحدةالأمريكية. ولا جثة أمريكية واحدة تم تصويرها وتبادلها بالهاتف.ُo o oوأنا أتأمل مشاهد الإعدام الهمجي الذي لم يترك لصدام حتي فرصة تلاوة الشهادتين للمرة الثانية، تذكرت ما وقع ذات قرون غابرة علي أرض العراق، عندما خطب الأمير العباسي خالد بن عبد الله القسري في جموع المصلين صباح عيد الأضحي، وعندما أتم خطبته قال لهم أن يذهبوا لينحروا أضاحيهم أما هو فسينحر الجعد بن درهم تقربا بدمه إلي الله، ونزل الأمير من المنبر وذبح بن درهم. إنه المشهد ذاته يتكرر، لكن بإخراج جديد. فقد عوض الحبل السيف، وعوضت كاميرا الهاتف ألسنة الرواة الذين تناقلوا الحادثة، وعوض صدام الجعد بن درهم. لكن مناسبة عيد الأضحي ظلت هي نفسها. فقط تغيرت الوسائل والتقنيات، لكن في أرض العراق المترعة بالمآسي لا شيء يعلو علي الثأر، الدم ينادي الدم، والعداوات تستفيق من جديد متدثرة بعباءاتها السوداء.شخصيا فقدت مذاق العيد هذه السنة، وشطرت عنق الخروف بالسكين وصورة عنق صدام المائل قليلا إلي الخلف والمبقع بالدم ماثلة أمامي بقوة. وأعتقد أنني لست الوحيد الذي فقد شهية الأكل خلال هذا العيد. كثيرون لم يستطيعوا حبس دموعهم وهم يسمعون صدام يتلو الشهادتين قبل أن يسمعوا صوت نزوله المدوي إلي الأسفل في منتصف الشهادة الثانية. كأن شيئا منهم هوي هو الآخر إلي قعر سحيق في الروح.ہ ہ ہكثيرون لن يغفروا لجلاديه كل هذه القسوة والهمجية في التعامل مع إنسان مقبل علي الموت. هل كان ضروريا شتمه بتلك الكلمات الجارحة، هل كان ضروريا عدم تركه يتمم شهادته إلي آخرها، هل كان ضروريا إعدامه فجر العيد، هل كان ضروريا تصويره وعرض موته أمام العالم. ربما كانوا ينتظرون منه أن يرتجف وأن يستغيث بهم، أن يبكي أو أن يطلب الصفح من جلاديه. هكذا يجدون أمامهم زعيما جبانا ومخذولا يصورونه ويعرضونه علي أنظار العالم.لكن صدام خذلهم وانتصر عليهم في آخر جولة من المعركة. لقد أرادوا أن يصنعوا منه أضحوكة أمام العالم، لكنهم انتهوا بأن صنعوا منه بطلا حقيقيا جابه الموت بشجاعة ومات واقفا مثل الأشجار.لم يبك ولم يرتجف، بل ظل واثقا من نفسه. وعندما سأله أحد المسؤولين العراقيين هل يشعر بالندم، أجابه صدام : لست نادما، لقد اخترت هذا الطريق...ہ مدير عام ورئيس تحرير صحيفة المساء المغربية____________ 03/01/2007