قليلة هي تلك السير الذاتية التي تعكس التاريخ مثلما تعكس سيرة حياة عبد الباري عطوان أحداث زمانه. فقد ولد عبد الباري عطوان في مخيم للاجئين في غزة عام 1950، التي غادرها في السابعة عشر من عمره ليصبح أحد أهم المعلقين الصحفيين في قضايا الشرق الأوسط في العالم. عطوان يروي بصدق وروح عفوية في هذا الكتاب قصة رحلته من أوحال مخيم اللاجئين إلى رأس هرم صحيفة «القدس العربي». خلال رحلته يصور عبد الباري عطوان الرعب الذي سببته مذابح المخيمات والنتائج غير المتوقعة للتدخل البريطاني في المنطقة. كما يروي المآسي التي واجهته جراء تنقله من بلد إلى آخر، والصدمة الثقافية التي أحس بها عندما سافر إلى لندن في السبعينيات. ويحكي أيضا لقاءاته الصحفية مع شخصيات سياسية مهمة مثل مارغريت تاتشر وأسامة بن لادن وياسر عرفات والعقيد القذافي وشاه إيران. كما لا يخلو الكتاب من روايات عن تجارب شخصية وإنسانية كان أكثرها تأثيرا تجربة لقاء أولاده بريطانيي المولد مع عائلته في المخيم. نهاية رجل شجاع رغم أني لم أكن أتفق مع نظام صدام حسين في العراق، لكن تصوير إعدام الرجل على التلفاز يوم 30 دجنبر عام 2006 أثارني وهزني بشدة، كما أنه صنع من الرجل شهيدا وبطلا نظرا للشجاعة ورباطة الجأش التي أبداها أمام العالم أجمع وهو مقبل على حبل المشنقة. إن اعتماد الأمريكيين على التلفزيون والإعلام لتطويع الرأي العام داخل أمريكا وخارجها غالبا ما يكون في غير محله، كما يتميز بالكذب والتدليس في أحيان كثيرة. وكثير من الناس سيتذكر الصور المهينة للقبض على الرئيس صدام حسين مثلا، إلا أن محامي صدام، خليل الدليمي، أخبرني أن كل هذه الصور تمت فبركتها أمام الكاميرا فقط، وأن صدام حسين كان اعتقل قبلها بأيام عندما قام أحد مساعديه بخيانته وتظاهر بالذهاب لشراء بعض الخبز في حين ذهب لأقرب مكتب للجيش الأمريكي ودلهم على مكان اختباء صدام. ووفقا لما قاله لي الدليمي، فإن صدام كان قد خدر بعد ذلك وتم تصوير الجنود الأمريكيين وهم يخرجونه من مخبئه ثم يفحصون رأسه وأسنانه في تصرف مهين ومذل للكرامة. بعض العراقيين اليوم سيتذكرون صدام كبطل قومي حارب الاحتلال، كما أن أعماله الدموية السابقة قد صغرت وقزِمت أمام أهوال وأكاذيب الحرب على العراق. وسيحيى ميراثه القومي المتمثل في كونه القائد الذي وفر للعراق متطلبات الثورة العلمية والتكنولوجية، وقضى على الأمية، وأمم صناعة النفط لفائدة الشعب، فضلا عن جعل بلده بلدا مهاب الجانب في منطقة الشرق الأوسط. كما ستظل سمعته في العالم العربي بأنه الرجل الذي قام بإطلاق 40 صاروخا على تل أبيب وقام بدعم المقاومة الفلسطينية وواسى عائلات شهدائهم ودافع عن دمشق أمام غزو الدبابات الإسرائيلية في حرب رمضان عام 1973. الحادي عشر من شتنبر 2001 كنتيجة لرحلتي التي قمت بها في نونبر من عام 1996 إلى أفغانستان حيث قضيت ثلاثة أيام مع أسامة بن لادن ورجاله في مخبئهم في جبال تورا بورا (يوجد تفصيل كامل لهذه المقابلة في كتاب «التاريخ السري للقاعدة» لعبد الباري عطوان)، تم اعتباري خبيرا في تنظيم القاعدة وكانت تعليقاتي وتحليلي للأخبار محط اهتمام المؤسسات الإخبارية والإعلامية عبر العالم. ولكنني أعترف أنني لم أكن مستعدا رغم هذا كله لتلقي خبر الحادي عشر من شتنبر عام 2001. كنت في مكتبي عندما تلقيت مكالمة هاتفية من صديق لي قال لي بلهجة مستعجلة: «شغل جهاز التلفاز». لم أصدق عيني وأنا أرى الدخان يتصاعد من أحد برجي التجارة العالميين اللذين كانا يمثلان رمز الرأسمالية والحضارة الغربية. في البداية كنت أعتقد – وقد شاركتني في هذا الاعتقاد معظم وسائل الإعلام – أن الأمر لم يَعْدُ كونه حادثة، ولكن عندما ضربت الطائرة الثانية وتواردت الأخبار عن هجوم ثالث على البنتاغون كنت على يقين أن هذا الأمر لابد أن يكون من عمل تنظيم القاعدة. لقد كانت رمزية الهجوم بالإضافة إلى الضجة التي أحدثها تحمل بصمات القاعدة، كما أن الطريقة التي استخدمت في تحطيم البرجين ذكرتني بالطريقة التي تمت بها تفجيرات دار السلام ونيروبي حيث إن السيارة استخدمت في الضربة الأولى ثم تلتها الشاحنة الأخرى التي تحمل العبوة الرئيسية وتلحق الضربة القاضية. طبعا كانت تفجيرات نيويورك أكبر عمل إرهابي على مر التاريخ، وقد دهشت من أن القاعدة امتلكت الموارد لتمول هجوما بهذا الحجم، لكنني كنت أعلم أن بن لادن الذي تعهد بأن يضرب أمريكا ضربة تزعزع كيانها لم يكن بالرجل الذي لا يوفي بتهديداته، سواء بطريقة أو بأخرى. كان مكتبي يعج بصحفيي الجريدة يومها الذين أرادوا مشاهدة الحدث الجلل. كنت مثل معظم البريطانيين مصدوما ومرعوبا من حجم الهجمات، خاصة عندما بدأ الضحايا برمي أنفسهم من طوابق البرجين التي التهمتها النيران. لم يكن العالم قد رأى شيئا كهذا إلا في الأفلام السينمائية. ومازلت أعتقد أن الأمريكيين لو أنهم أحسنوا تسخير تعاطف العالم معهم وقتها، لكانت أحداث تاريخية كثيرة تغيرت. ولكن على العكس تماما قام الرئيس بوش وتوني بلير بتصوير اعتداءات الحادي عشر من شتنبر بأنها هجوم على الحضارة الغربية، صانعين عدوا جديدا من العالم الإسلامي برمته، وكأنهم يعيدون سيناريو الحرب الباردة بشنهم حملات تفجير واسعة النطاق في أفغانستان وبعد ذلك بعامين غزوا العراق. رن الهاتف بينما كنت متسمرا أمام التلفاز في مكتبي. كان على الهاتف أليستاير ليون من وكالة رويترز. كنا نعرف بعضنا جيدا، لذا تجنب المقدمات عندما تحدث معي قائلا: «باري، ما رأيك فيما حدث؟». أخبرته مباشرة أن هذا كان أحد أعمال تنظيم القاعدة. كانت لدينا ثمانية خطوط للهاتف في مكتب «القدس العربي» لم يتوقف أي منها عن الرنين على مدى شهرين متواصلين. كانت كل وسائل الإعلام في العالم تريد الحديث معي لأني أجريت مقابلة مع أخطر المطلوبين في العالم، أسامة بن لادن. في 11 و12 شتنبر كان هناك أكثر من 30 مراسلا صحفيا يعسكرون خارج مكاتبنا في منطقة هامرسميث. كان علي وقتها أن أخرج من الباب الخلفي لتفادي هذا الحشد من الصحفيين، حينها فقط بدأت أحس بالأسى نحو الفنانين والمشاهير الذين يتعرضون كل يوم لهذا الانتهاك الصارخ للخصوصية. كنتيجة لأحداث الحادي عشر من شتنبر وتعليقاتي على هذا الحادث المأساوي، تقربت مني عدة محطات تليفزيونية مشهورة منها ال «سي إن إن» و«إيه بي سي» و«سي بي إس» و«إن بي سي» لأصبح مستشارها الخاص فيما يتعلق بتنظيم القاعدة. ومن هذه الشبكات التلفزيونية اخترت شبكة «سي إن إن»، التي كانت قد قامت في نظري بعمل رائع في تغطية حرب الخليج، والتي كانت تحظى باحترام في العالم العربي. تحت الضغط كان معدل توزيعنا الثابت وكذلك رسائل القراء التي ترد إلينا دوما دليلا و شاهدا مهما على ارتفاع شعبية الصحيفة، رغم أن «القدس العربي» كانت قد منعت من دخول عدة بلدان عربية. لم يكن الجميع مسرورا بنجاحنا رغم ذلك وكانت هناك محاولات عدة لتخريب مجهوداتنا وعملنا. تم اقتحام مكاتبنا عدة مرات من قبل جهات متعددة للبحث عن صلة بيننا وبين أحد وسطاء صدام حسين – حيث كان يروج أنه هو من كان يمول الصحيفة – أو بن لادن. وبسبب هجوم الحادي عشر من شتنبر وجدت نفسي هدفا لعدد من رسائل الكراهية الاليكترونية التي كانت ترسلها منظمات يمينية متطرفة كانت تظن أنني أدعم تنظيم القاعدة بدل كتابة التقارير الصحفية عنه. و قد ورد في إحدى هذه الرسائل «أيها الوغد الأجنبي، نحن نعرف أين تسكن وسوف نأتي لقتلك». تلقيت كثيرا من رسائل التهديد بالقتل، وكان لكل منها منطقها وأسبابها الخاصة. كانت هناك رسائل أخرى من أصوليين إسلاميين لم يصدقوا أن القاعدة تستطيع القيام بهجوم بهذا الحجم وظنوا أنني أحاول تشويه صورتهم، وأتوا في رسائلهم على ذكر تفجيرات أوكلاهوما في الولاياتالمتحدة، التي ألقي باللائمة فيها على متشددين إسلاميين، من بينهم حزب الله اللبناني، ليتضح فيما بعد أنها من عمل مواطن أمريكي يدعى تيموتي ماكفيه. بالنسبة لهؤلاء المتشددين الإسلاميين كنت جزءا من حملة تشنها وكالة الاستخبارات الأمريكية لتشويه صورة القاعدة، وقد أرادوا قتلي لذلك.