وأحاول في تسطيري هذا أساساً ، تناول " الموروث النقلي والعقلي " . وهي نقطة قلما ركزنا عليها في تناولنا ( للإصلاح ) الذي نطالب به بأشكاله السياسية والاجتماعية والاقتصادية و .. الخ . الإصلاح الجذري ، لا الشكلي . فالإصلاح أساسً والذي يجب البدء به والعمل عليه ، وحتى مع وقائع أدنى من أساسياته ، هو : ( إصلاح العقل العربي ) . فمع أن " العقل " في العالم من حيث تركيبته أو وظائفه ، هي متشابهة إن لم أقل واحدة ، إلا أن لكل عقل " فردي " ، وعلى الأخص " جمعي " ، تأثره بما ينجم عنه عند تشكله . أي : أن ( العقل ) بتأثره بنمط الحياة ، وبنمط المحيط ، وبنمط الموروث ، يشكل أساساَ لتكون عقل أي أمة أو مجتمع أو فرد . وفي ( العقل العربي ) ، فإن من أكبر تأثيرات نمط المعرفة وشكلها ومحتواها ، هو تأثير ( الموروث). (فالنقل) عندنا هو الأعظم تأثيرآ ، والتراث الشعبي يعتمد كأمر يجب تجاوزه في الأعم ، عليه . ويكون أكثر تسليماً وتمسكاً به عما يمكن أن يستجد في المعرفة والعلم والتطور الإنساني . ولكي لانبقى في التقول النظري .. فهناك أمور هامة في الواقع ، لها انعكاسات جد سلبية على ( نمط التفكير ) العقلي الذي نتمسك به ، وعلى سبيل المثال لا التحديد : • النقل عن " عقل التراث " . • وضع العقل الإنساني في زنزانة التاريخ . • الاستناد إلى العامل الميتافيزيقي المعتمد على تفسيرات غيبية ، ليس للواقع والعلم ارتباط بها ولو بالحد الأدنى . وهذه الأمور الثلاثة التي أراها – في رأيي – أساسية ومميزة عن بقية العوامل ، وهي مترابطة يصعب تفكيكها إلى وحدات مستقلة قائمة بذاتها . وبالشكل المتشابك لهذه الأساسيات ، فإننا قد استسلمنا بدون بحث أو تفعيل للعقل ، أو استخدام لأي منهج علمي إنساني ، وخاصة في الأنثروبولوجي – علم الإنسان - ، إلى ما مارسه هؤلاء المفكرين والباحثين عبر التاريخ في ظرفهم ومكانهم وزمانهم ، لما يجب أن نمارسه نحن . إن الإصلاح بحاجة إلى حوامل . ونحن لا نزال نستخدم الحوامل القديمة لأننا " نخاف " من استخدام حوامل جديدة . وهنا لا أدعو إلى قطيعة معرفية ، والبحث عن نظريات جديدة خارج بيئتها ومجتمعها ومسارها التاريخي . فقوتنا في الإصلاح مستمدة من " التواصل المعرفي " ، إذ لا يمكن البدء من الصفر وإلغاء جميع المعارف والقطع معها ، فهذا سيعيدنا إلى الكهوف . إن تطور المعرفة وإغنائها ، على نقيض مع شعار القطيعة المعرفية . كما أن استخدام الحوامل القديمة ، تؤدي غلى قطيعة معرفية مع الواقع . ففي الدين .. اعتمد الفقهاء والباحثين والمفكرين فيما مضى ، اعتمدوا وفعلوا العقل في نصوص القرآن الكريم ، الذي هو [ حمال أوجه ] كما قال سيدنا علي رضي الله عنه . وقصده كان على جزء" المعاملات " لا " العقائد " . بينما لا يزال علماءنا وفقهاءنا ومجتهدينا في أغلبهم الأعم ، كسالى ومستسلمين ، أو مستحسنين للقديم – بغض النظر عن الأسباب العديدة لذلك – لقديم عقول الموتى . بل أنه أحياناً يناقضوها ويصبغوها بالتخلف ، عودة إلى زمان ومكان وظروف عنها ، تغتال مقولة : [ أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان ] . هذا الذي يقال عنه : ( الفكر الديني ) ، وهو فكر إنساني خاضع للصواب والخطأ لا معصومية له ، بل عليه النقد والرفض يوجه ، في الأغالب . هذا النقل في معظمه يفتقد التجديد والتطوير ، لإلغاء الكثير من الموروث ومن نتاج العقول السابق المحكوم بالظرف والزمن والمكان . ولا يزالون يعتقدون ، بأن ( نقل عقل التراث ) هو الواجب الذي يؤدونه بكل كفاءة وحق . بينما يكونون قد ( وضعوا العقل الإنساني في زنزانة التاريخ ) . فمن زاره يجده هَرٍم لا يستطيع حراكاً ، ولا يملك فائدة لنفسه ولا للآخرين ، كشيء معروض في متحف التاريخ . إن الأجدى بنا والأنجع ، ضرورة العودة إلى ( المعرفة القرآنية ) لإصلاح فكرنا الديني . إذ أن المتفق عليه لدى أغلب المسلمين ، فقهاء وعامة ، أن القرآن الكريم قد أتى بالأجوبة على تساؤلات الإنسان .. فالإسلام بشقيه : العقائد - والمعاملات قد حرص على علاقة الإنسان بالخالق تحريرآ للإنسان من المادية المجردة ، وتمثلاُ للخلق الإنساني القويم . فقدم " الثوابت " التي لا تتغير ولا تتبدل بتغير الزمن والمكان والإنسان ، في مجال ( العقائد ) . وترك لقول ( القرآن صالح لكل زمان ومكان ) حقله في مجال ( المعاملات ) . ومع هذا الاتفاق ( بالنص والكلمة ) ، إلا أن هناك اختلاف جذري فيما يتعلق " بالمعاملات " .. بين المتعصبين والمنغلقين وضيقي الأفق والعقل ، وبين الوسطيين ومنفتحي الأفق والعقل لصالح خدمة الإنسان وعمارة الكون وتقدم الإنسانية . فالمعاملات – كما أرى – هي المرتبطة بالزمان والمكان والظروف والحياة والإنسان .. فهي منفتحة .. ولا يمكن أن تؤخذ ( بحرفيتها ) كما " العبادات " ... إنها القابلة للتجديد والتغيير ضمن " المصالح الإلهية المرسلة " . إنها ( رمزية ) وليست حرفية . ويحضرني هنا قصة واقعية طريفة .. جرت بين / اللورد كريمر / الحاكم البريطاني لمصر ، وبين الشيخ / محمد عبده / توضح ما أريد قوله : سأل / كريمر / في إحدى جلسات الحوار مع الشيخ : هل صحيح أن قرآنكم قد أجاب على كل التساؤلات ، وأعطى كل الأجوبة ؟ قال الشيخ : نعم .. تماماً . قال كريمر : هل تستطيع يا شيخ أن تجيبني ، ومن قرآنكم ، كم رغيف خبز يصنع من كيس الطحين ؟ قال الشيخ : أمهلني لغد ، فأجيبك ... ووافق كريمر . في الغد عاد الشيخ وقال لكريمر : أنه يصنع / ... كذا رغيف / وحدد له عدد الأرغفة . قال كريمر : وهل هذا الجواب مذكور في قرآنكم ؟ قال الشيخ : نعم .. فاستمر كريمر متسائلاً : هل تستطيع أن تحدد لي الآية المتضمنة هذه الإجابة ؟ قال الشيخ : نعم .. [ اسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ] . وأنا سألت أهل العلم في هذا الموضوع . إذآ .. أين المشكلة ؟؟ واسمحوا لي وخلافاً لأصول البحث المنهجي العلمي ، بأن أضع النتيجة / الجواب ، قبل العرض والنقاش والبحث والجدل والمقارنة البحثية الموصلة للنتيجة .. النتيجة / الجواب : أن المشكلة تكمن في ( عقولنا ) .. في الدين .. اليهودي ، المسيحي ، الإسلامي .. لم نتجاوز فترة ( الدين الإلهي ) بضع عشرات من السنين . وفي آخر الرسالات السماوية .. الإسلام .. فإن " الدين الإلهي " لم يعد مأخوذاً به كمضمون حقيقي ، مع مقتل / عثمان / الخليفة الثالث ، ليحل محله " الدين السياسي المشوه " . قلة من تستطيع أن تستوعب وتشرح : " الخلاف الإنساني " بين الشيعة : بطوائفها .. وبين الإسماعيلية بطوائفها .. وبين الحشاشين – وأختُلف إن كانت التسمية بسبب تناول الطائفة حشاش الأرض أثناء الحصارات ، أم بسبب تناول الحشيش المخدر - . وبين السنة ومذاهبها المختلفة . حيث كانت (النتيجة ) أن يصب ( الاختلاف السياسي ) مكان ( الاختلاف الفقهي ) وإن ارتدى لبوسه . هذا في الدين .. وفي ( الوطنية ) .. أصبحت ( وجهات نظر ) خاضعة للنقاش والحوار والتجيير والتبرير . وهي ليس كذلك . وفي القومية : أصبح للإثنيات الأقلية – خارج الحق الإنساني وحقوق المواطنة – اتجاه الهيمنة والسيطرة على الأكثرية القومية . وفي الشيوعية : تعزز مفهوم " الانشقاق " والخروج للتلاقي مع الليبرالية ، بل والعولمة المتوحشة. وفي الناصرية : أصبح هناك : ناصريون دينيون ، وناصريون شيوعيون .. ناصريون اشتراكيون ، وناصريون رأسماليون . وفي الإسلام السياسي : وبعد / حسن البنا / الأخوان المسلمون .. أصبح هناك : إسلام أمريكي ، وآخر شيعي ، وآخر سني ، وآخر بريطاني ، حتى وصل إلى إسلام " بن لادن " والقاعدة ، وهناك الوهابية ، والفاطمية ، والسلجوقية بموروثاتها .. وفي الليبرالية : في عالمنا العربي .. انتقلت من حرية التعامل والسياسات الاقتصادية الحرة ، إلى ديكتاتورية الطبقة الرأسمالية والإعلام والشركات الاستعمارية العابرة للقارات ( على حساب الفرد ) أساس المذهب الليبرالي . لذلك أقول : أن الجواب / على أين المشكلة ؟ .. هو في ( عقولنا ) . إنه الصراع الذي لم يحسم لدينا .. بين ( النقل ) وبين ( العقل ) .. بين الفردية والأنوية بالمرايا العاكسة للذات ، وبين الجماعية والمؤسسات والحوارات وتقبل الآخر ، خارج مرآة نفسنا الفردية . بين دور البطل والزعيم والقائد والملهم .. وبين دور الشعب والمؤسسات الناظمة للدولة والمجتمع . ( إن محمداً قد مات ) والإسلام باق . و ( عبد الناصر ) وأبطال الأمة قد ماتوا ، ومعارك التحرر والبناء والوحدة القومية ، باقية تنتظر الإنجاز . ومرة أخرى .. أين المشكلة ؟؟ المشكلة كبيرة .. قد لا نستطيع – في معظمنا – استيعابها .. المشكلة قد عبر عنها الشاعر والأديب والمناضل الفلسطيني / محمود درويش / إذ قال : [ المشكلة الكبرى .. قد بدأت عندما نزل القرد من على الشجرة ، وسار على قدمين .. ] . أنستطيع التمثل بين : التقليد والأصالة ؟ .. بين التكرار / النقل ، وبين الإبداع / العقل .. هل سنستمر في الترداد الببغائي ؟؟ ألا يحق لنا ، بل وواجباً لحقنا الإنساني ، أن نكون أكثر من قرد وببغاء ؟ ومن أسف .. لقد أصبح مسار تفكيرنا ، ومسيرة حياتنا ، مصدر ذاتي لإنتاج الأزمات وصناعة الكوارث . سواء أكان هذا المصدر نتاج مثقفين هم حراس المعاني والقيم ومنتجين للتطوير والتجديد ومعالجة المشاكل ، فأصبحوا أول أدوات الضياع والمآسي ، وتحولوا – في معظمهم – من أسانيد للقيم الإنسانية والحضارية والفكرية ، إلى عابثين بها . أو كان هذا المصدر ، نحن الأفراد بكل مستوياتنا ، ننتج الأزمات والمآسي والكوارث ، كنتيجة لتفكيرنا ولنظرتنا إلى ذواتنا وهوياتنا !! ومشاعرنا التي تقتات على الحب والكره في فهم وممارسة الحياة ، وتواصلنا مع بعضنا، ومع الآخر المختلف . فنجعل هذه المشاعر " الغير متفكرة " – ولا أقول المفكرة- مرجعاً أساسياً لا يتغير ولا يتبدل .. لتبقى مرجعيته أحكاماً مسبقة جاهزة ، وقد تكون " وراثية " في معظمها . والنتيجة : هي أن الواقع يتغير ، بخلاف ما نراه ونتصوره ، أو حتى نريده .. يتغير نحو الأفضل للآخرين ، ونحو مزيد من التأزم والتردي والتخلف والاقتتال بالنسبة لنا . إننا من حيث مساهمتنا في إنتاج أزماتنا وصناعة كوارثنا ، إنما نمثل : [ الوجه الرابع لثالوث الكاهن والسياسي والتاجر ] كما ذكر الأستاذ / علي حرب / . إن الأساس في عملنا ومنطلقنا يجب أن يتوجه نحو إعادة ( بناء العقل العربي ) .. فليس على درجة من الأهمية بالنسبة لهذا التوجه ، أن نتفق أو نختلف .. بل المهم أن نبني ونستوعب : أصولاً في جدل المحاكاة والفهم والاستيعاب ، لبناء " أصول التفكير وممارسته " في كل جزيئات حياتنا .. إن قناعتنا بأمر ... لا يعني أنه حقيقة .. ورفضنا لأمر ... لا يعني إلغاء الحقيقة .. حركة القوميين العرب