ذلك الصباح ،عم هدوء غريب. برد حاد كاد أن يكسر حجر بيتنا الآيل للسقوط. أسوار هذا البيت الهش بنته أيادي عبد القادر، بناء معروف بالبلدة، كان يختلس الإسمنت ليلا ليبيعه نهارا لأباطرة الإسمنت المسروق. كنت تحت بطانيتي المطلية بقطرات البول النتن، أداعب قضيبي في صمت مطلق. أنصت إلى أبي الذي يستعد لإيقاظي كي أذهب إلى المدرسة.كانت اللحظة أغرب من الخيال. أستمع إلى أبي بشغف وهو يتحدث عن سيدي كمون، الولي الصالح الموجود قرب المقبرة. مجرد حفرة يلجأ إليها الناس لحمل قليل من التراب الذي يستعملونه لشفاء أمراضهم الجلدية. كان أبي يتكلم في خشوع يزرع الخوف في بواطني. كنت آنذاك أضحك واضعا يدي على فمي الذي ملأه لعابي الممزوج برائحة أسناني المسوسة . تذكرت صديقي لعوينة الذي كان يحكي لي كل صباح قصصه الحالمة مع سيدي كمون. يغتنم فرصة نهاية كلام المعلم الذي كان يطلب منا قراءة كلمة بقرة مائة مرة أو يأمرنا بكتابتها ألف مرة كعقو بة عن عدم انتباهنا. يأتي لعوينة فرحا وقد ظهرت على محياه علامات السعادة. كنا كتلاميذ المدرسة نحسده على كل قهقهاته التي يزعزع بها السبورة عندما كان المعلم يبدأ في صلاته. لباسه الأنيق يجدده كل يوم وكأن في بيته مصنعا للألبسة. عندما أسأله عن سر فرحه اليومي، يجيبني فاتحا فاه المهدوم : دارها سيدي كمون .لم اكن أفهم شيئا. كنت قاصرا وغير قادر على فهم ألغاز صديقي الذي يكرر جملته كل صباح عن ولي صالح لم أكن أعرفه إلا من خلال حكايات أبي الممزوجة بنسمة القهوى التي يعدها خصيصا لي وأخواتي حتى لا تخترقنا لعنة الجوع و تحول رؤوسنا الخاوية إلى جثث هامدة لا يأتيها حديث المعلم لا من أمامها و لا من وراءها.كنت قليل الكلام. مسكون بالهلع المزروع في نفسي بسبب مشاهداتي المتكررة لأحذية قوات الشرطة وهي تدك الأرض عندما يشن المعلمون إضرابا أو عندما يحتل المخزن المدرسة لإجراء مباراة لتوظيف من كان يسميهم صديقي لعوينة برجال السمطة .كنت أعرف أن تلك اللحظة كانت مناسبة كي أتحدى لغة السر التي تلجم لساني وتكتم أنفاسي. انتظرت لعوينة بعد ما ولجت كالفأر الدروب و الأزقة الضيقة. لم يمنعني إحساسي بكوني داخل سجن كبير. أنتظر ذلك المغبون كي أراه كيف يقطع جنبات المقبرة المتهالكة ليصل إلى حفرة سيدي كمون. كان مسرعا في مشيته، ينظر إلى ورائه وكأنه خلف ورائه جريمة. اعتقدت أنه مريض ويقصد تلك الحفرة من أجل الإستشفاء، لكنه وضع يديه في الحفرة ثم أخذ أشياء مرات عديدة وكأنه يرصد كنزا تحت التراب. دب في نفسي شك مريب وقلت في نفسي أن أحد أفراد عائلته مريض، وربما أرسله أبوه للتبرك بتراب سيدي كمون حتى لا تنقرض سلالة لعوينة المعروفة لذى الجميع بلقب الفريق. أب صديقي الذي سماه أهل البلدة بالعنزوق، يعتقد أن في كل ولادة زيادة في الإسلام. كان يقولها جهارا: كل سنة زيادة في بيتي،وكل زيادة بطفل جديد يحمل إسم الشجرة. شجرة بناها هذا الأب الملعون من تراب سيدي كمون وماء المقبرة. كان يثقب طبلة آذاننا بالحومة بمقولته المكرورة: تراب سيدي كمون و ماء المقبرة فيهم البركة.لعوينة عمل بوصية أبيه: اتبع حرفة بوك لا يغلبوك . كان يمر كل صباح ليجمع الريالات و الدراهم الصدئة التي يضعها الأغبياء في الحفرة تبركا بسيدي كمون. ما أحلى أن آكل الأشياء الباردة و أتمتع برزق جابوا الله على ظهر الكوانب °.قالها لعوينة بسخرية لاذعة . كان يتلذذ حروف كلامه بعدما حاصرته داخل الحفرة. آنذاك،اكتشفت سر عشقه الأبدي للأموات الذين يودعوننا في صمت ويتركون علاماتهم على قارعة الطريق.غادرت سيدي كمون في حلة جنائزية. صديقي الذي أراد أن يرافقني كعادته إلى المدرسة بدأ يقلد مشيتي،لكني رفضت أن اكرر مرة أخرى كلمة بقرة مئات المرات و أنصت إلى حكاية صباحية أخرى لسيدي كمون. حولت اتجاهي صوب حيطان بيتنا المقشرة لأكمل نعاسي. كانت أحلامي المزعجة تنتظر مجيئي لأداعبها كعادتي.°الكوانب : الأغبياءمحمد نبيل صحافي وكاتب مقيم بألمانيا