في شتاء عام 1906 كان طالب أزهري ضرير من بيئة مصرية ريفية فقيرة، لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره، يستمع، مع رفاق له، إلى سيّد المرصفي، أحد اساتذة الأزهر في الأدب والنقد واللغة، يدرّس في أحد أروقته في كتاب ، وعندما جاء الى قول المبرّد مؤلف الكتاب: فقال الطالب الضرير رداً على الفقهاء: . وكان هذا القول سبباً لمحو اسم قائله من الأزهر، ومنعه من متابعة الدراسة فيه، حتى تدخّل استاذ الجيل أحمد لطفي السيد متوسطاً له لدى شيخ الأزهر فأعاده إليه، وكان هذا القول اول صرخة في ثورة من نوع خاص، أطلقها، طاهر حسين، الذي عُرف فيما بعد بطه حسين، ذلك الطالب الضرير المشاغب، وفاتحة دخوله الباب ليصبح مالئ الدنيا وشاغل الناس، في دنيا العرب طيلة القرن العشرين.ولعل أرهق ما يواجه الباحث في طه حسين أن يقدمه، لتعدد مواهبه، وتنوّع الحقول الفكرية والأدبية التي جال فيها فأبدع، وضراوة المعارك التحديثية التي خاضها في وجه أعتى المؤسسات المتخلّفة المتسلطة المتحجرة فانتصر حيناً وهزم أحياناً، ولصعوبة الإحاطة بمشروعه النهضوي التنويري، والأدوار الرائدة التي لعبها في الفكر والتعليم. لقد كتب طه حسين خلال عمره المديد (1889 م. 1973م.) خمسين كتاباً في الشعر، والقصة، والسير، والأدب، والتاريخ، وفلسفة التربية، وقضايا الثقافة، والحضارة، كما ترجم عن الفرنسية بعض الآثار الروائية والفلسفية والمسرحية، وتولّى التدريس الجامعي، وكان أول عميد مصري لكلية الآداب في القاهرة، كما تولّى إدارة جامعة الاسكندرية التي أشرف على تأسيسها، وكان له دور كبير معروف في إصلاح التعليم في مصر عندما تولّى وزارة المعارف ورئاسة مجمع اللغة العربية فيها، هذا إضافة الى إصداره مجلة الكاتب المصري وتوليه رئاسة تحريرها وما أصدرته من كتب وترجمات.ومن بين جوانب طه حسين المتعدّدة، تبدو علاقته بالشعر أقلّها التباساً، وأكثرها غنى وضجيجاً، وقبل هذا وذاك أقربها الى قلبه وألصقها بذاته. وإذا وضعنا كتابه مستقبل الثقافة في مصر (1938م) الذي يُعطيه الباحثون أهمية وثقلاً خاصين باعتباره: البيان السياسي والتقرير العملي لمشروعه النهضوي، إذا وضعنا هذا الكتاب جانباً وجدنا ان دراسته للشعر العربي وما يتصل به، وللشعراء قديمهم وحديثهم، هي الأهم في نتاجه الغزير، ويكفي في هذا السياق كتابه الحدث في الشعر الجاهلي (1926/م)، والأثر الضخم الذي تركه من خلال المنهج الجديد الذي اعتمده في الدراسات الأدبية، وعبر القضية التي طرحها حول اللغة العربية والقرآن، وانتحال الشعر الجاهلي، والتي شكلت احدى اكبر معارك الحداثة في تاريخ الفكر العربي. والأهم في علاقة طه حسين بالشعر هو أنه بدأ حياته الادبية شاعراً شغوفاً بنظم الشعر، الفصيح وأحياناً العامي، ونشره في الصحف، وإلقائه في الحفلات والاجتماعات. وظل نظم الشعر نشاطه الاساسي من عام 1908م. حين نشر اول قصيدة له في رثاء حسن عبد الرزاق باشا، وحتى عام 1914م. اي طيلة شبابه الاول، حين توقف نهائيا عن النظم ولم يعد إليه إلا مرة واحدة ليردّ فيها على أبيات وجّهها إليه الشاعر الراحل علي الجندي والتي جاء فيها يشكره على إعفاء أبنائه من المصروفات المدرسية قائلاً له:من لي بمثل طه مبدع السحر الحلالحتى أقوم بشكر ما أوليتَ يا فخر الرجالفأجابه طه حسين:من لي بقلب مثل قلبكَ أو بفنٍ مثل فنّكحتى أقوم بشكر ما أوليتني من حسن ظنكوانصراف طه حسين عن نظم الشعر، لم يصرفه يوما عن الولع بالاستماع إليه وإلقائه، حتى أنه: في إحدى محاضراته طلب الى مستمعيه أن يُنصتوا إلى قصيدة أبي تمام البائية التي مدح بها الخليفة المعتصم عند فتح عمورية ثم ألقاها من حافظته وهي واحد وسبعون بيتاً إلقاء كان مثار الدهشة والإعجاب بذلك الصوت العذب الدافئ الطالع من أعماق حزينة. ويذكر سكرتير طه حسين الثاني الدكتور محمد الدسوقي في مذكراته أن قراءة الشعر له، لا سيما القديم منه، كانت أمراً معتاداً وحاجة لا يستغنى عنها أبداً. كما وصف الشاعر الجواهريّ في ذكرياته حالة الحبور والنشوة التي أخذت بطه حسين وهو يستمع الى القصائد التي كانت تلقى في المهرجان الألفي لأبي العلاء المعري في المعرّة عام 1944م، لا سيما عندما وصل الجواهري في قصيدته الى قوله:سلِ المقادير هل لا زلتِ سادرةأم أنتِ خجلى لما أرهقته نصباوهل تعمدتِ أن أُعطيتِ سائبةهذا الذي من عظيم مثلهِ سُلباهذا الضياءَ الذي يَهدي لمكمنهلصاً ويُرشدُ أفعى تنفثُ العطباوإذا كان الباحثون والكتّاب في العشرات من الأعمال والدراسات قد تناولوا طه حسين ناقدا وباحثا في التاريخ وكاتبا للتراجم والسير وروائيا، ومفكرا، ومصلحا، ورائد نهضة وتحديث، إلا أنهم، في غالبيتهم، مروا به، شاعرا، مرور الكرام، على الرغم من ان بعض شعره، بإجماع النقاد، من الشعر الجيد. ولعل السبب في ذلك ان طه حسين نفسه قد تعمّد ان يضرب صفحاً عن كل ما كُتب من شعر ونثر من الفترة المبكرة من حياته الأدبية اي قبل تأليفه لرسالة الدكتوراه التي خصصها لأبي العلاء المعري (ذكرى أبي العلاء 1915/م)؛ وذلك لسوء رأيه في تلك الكتابات وهو ما يفعله الكثير من الأدباء والشعراء الذين يتنكّرون لبواكيرهم فيتلفونها او يتناسونها بحجة فقدانها. وثمة من يذهب إلى غير ذلك فيقول: إن طه حسين أدرك بذكائه ان الشعر لا يحقق ما يطمح اليه من آمال كبار، لأنه وجد في زمن بلغت فيه نهضة الشعر العربي مستوى عالياً، اذ ظهر فيه شيخ الشعراء اسماعيل صبري وأميرهم أحمد شوقي وشاعر النيل حافظ ابراهيم وشاعر الأقطار العربية خليل مطران وغير هؤلاء من مقدّمي الشعر، فانصرف الى النثر... ولم يصنع كما صنع العقاد.قصائدنظم طه حسين عشرات القصائد في حقول السياسة والغزل والاجتماع والرثاء والوجدانيات، ونشرها بين عام 1908م وعام 1914م في أهم الصحف التي كانت تصدر في تلك الآونة في مصر، مثل: السياسة والجريدة ومصر الفتاة وكان يختار لها عناوين جديدة جريئة، مثل: آه لو عدل وليت للحب قضاة، ورجاء الدستور، وحديث مع النيل، وهمٌّ جائش، وشكاة الأديب، الخ... ومما يؤسف له حقاً ان هذا الشعر لم يُجمع، ولم يُدرج إلا القليل منه في مجموعات الاعمال التي صدرت لطه حسين، وقد ضاع قسم كبير منه بنتيجة تلف الصحف التي نشر فيها بمرور الزمن وتوالي الأيام. والأهم بنتيجة إسقاط صاحبه له من حياته الأدبية وطويه له.ومن قصيدة لطه حسين بعنوان حديث مع النيل بلغت ستين بيتاً ونشرت في جريدة مصر الفتاة في شهر مايو (ايار) 1909 وقدّمتها الجريدة، على عادة ذلك الزمن، بالتعريف بالشاعر بقولها: لحضرة الشاعر الناثر صاحب اليراعة والبراعة وقد ضرب فيها على القالب العربي حتى لا تكاد ترى لها فرقاً بينها وبين الشعر الجاهلي، لذلك ترى فيها بعض الأساليب ما يغمض على بعض المعاصرين، كالذي وضعه بين قوسين اشارة الى جواب النيل، وهو اسلوب القرآن الكريم مثل قوله تعالى: فأرسلون، يوسف أيها الصديق وقفة في الصباح أو في الأصيليتجلى فيها جمال النيلتنزع اليائس الحزين عن البؤس وتنسى المحب عذل العذولرب ليل قد بات فيه لي الهمنزيلاً، أبغض به من نزيلظلم الانجليز مصر فهل جاريتهم أنت في المقام الطويلأجملي نفس إن في النيل للمحزون سلوى ومشتفى للعليلما عنائي وما عناؤك يا نيللقوم رضوا حياة الذليلكاتب نائم وذو شعر لاهٍوأديب سبته كأس الشمولشاعر النيل لاعدتك العواديهل لهذا السكون من تأويل ومن قصيدة له بعنوان همّ جائش نشرها في جريدة مصر الفتاة ووجّهها الى الانجليز المستعمرين تيمّموا غير وادي النيل وانتجعوافليس في مصر للأطماع متسعكفوا مطامعكم عنا أليس لكممما جنيتم وما تجنونه شبعيا للكنانة من منكود طالعهاماذا يجرّ عليها الظلم والطمع ومن قصيدة له بعنوان: ليت للحب قضاة نشرها ايضا في جريدة مصر الفتاة شف قلبي ما يعانيمن تباريح الجوىيعشق الحسن ولكنليس يحظى بالوصالأنا من وصل حبيبيبين صدّ ونوىمن عزيري من بخيلضنّ حتى بالخيال يا رعى الله عهوداًللهوى منذ سنينحين كنا في أمانمن عيون الرقباءنجتني اللذات لا نخشى أذاة الكاشحين إنما العذال للحبّ وللأجيال داء يحسب العذال أنيهمت بالحب جنونالو رأى العذال رأييفي الهوى ما عذلونيولما قالوا فلاناحد المستهتريناأنا لا اعطي غراميأبداً كل شؤوني ومن قصيدة له بعنوان شكاة الأديب نشرها كذلك في مصر الفتاة في 27 تشرين الثاني 1909/م ضنيت لا من هوى الغوانيواشتقت لا للمها الحسانوشفني لا صدود ريماذا ثنى عطفه سبانيواقتادني لا هوى فلانفقد تولى هوى فلانما أنا والحب يزدهينيحسبي من الحب ما دهانيلقد بلوت الغرام غرافكم بالآمه ابتلانيكم حمد الغيد من بلائيمذ كان لي بالهوى يدانتحكم الغيد فيَّ دهراثم انثنى عنهمو عنانيلا يشمت الحاسدون إنيسلوت حبي وما سلانيرأيت أن الهوى سيُلقينفسي في هوة الهوان (...) لم أمض عشرين غير أنيبلوت دهري كما بلانيإذا شكى البؤس كان ندبفقد نجا منه شاعرانبينما نعانيه كان شوقييقصف في كرمة ابن هانيوحافظ في القطار يلهومشرّد الهمّ غير عانفليطب الشاعران نفساًإنا رضينا بما نعاني(وهو يقصد هنا طبعاً الشاعرين أحمد شوقي وحافظ ابراهيم). ومن قصيدة له نشرها في مصر الفتاة قوله شادن عطفعطفة الحبيببعدما صدفصدفة الملولكم سبى العقولقوله الخلوبيملك القلوبثم لا ينيل يذكر السكرتير الثاني لطه حسين الدكتور محمد الدسوقي في مذكراته أنه قبيل اشهر من وفاته كان يطلب إليه ان يتلو عليه مراراً وتكراراً البيتين التاليين: لا يعجز الموت شيء دون خالقهوالموت فانٍ إذا ما ناله الأجلُوكل كرب أمام الموت متّضعٌللموت والموت فيما بعده جَلل لا عليك أيها الخالد العظيم لم ينل ولن ينال الموت منك أبداً.