يخشى المرء على نفسه ومنها أيضاً أن ينسى أنه بدأ بالفعل في العشر الأوائل من ذي الحجة ، تلك الأيام التي تنتهي بمشهد عظيم حقاً يوم يتباهى الله ( سبحانه وتعالى ) بخلقه من البشر أمام ملائكته ، ولو فكر المرء منا قليلاً كيف يكون تباهي الخالق بخلقه ، لاستحى من فعله وقوله وحياته بأجمعها لما اقترفه ويقترفه من صغائر الأعمال وكبائرها . وليت المسلم هذه الأيام يتدبر حديث رسولنا الأكرم ( صلى الله عليه وسلم ) حينما قال : " ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام " ، يعني ( عليه الصلاة والسلام ) الأيام العشر من ذي حجة ، قالوا له : ولا الجهاد في سبيل الله تعالى ؟ ، قال : " ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ، فلم يرجع من ذلك بشئ" . ولرسولنا الكريم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حديث آخر يؤكد ذلك المقصد والمبنى والمعنى ، فعن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله ( رضي الله عنهما ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : "ما من أيام أحب إلى الله وأفضل من أيام العشر " ، قيل : ولا مثلهن في سبيل الله ؟ قال : " ولا مثلهن في سبيل الله ، إلا رجل عقر جواده ، وعفر وجهه" . وفي فضل هذه الأيام المباركة مواقف بارزة في السيرة النبوية العطرة ، منها ما ذكره عطاء ، عن أم المؤمنين السيدة عائشة بنت الصديق ( رضي الله عنه ) أن شاباً كان إذا أهل هلال ذي الحجة أصبح صائماً ، فارتفع الحديث إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأرسل إليه فدعاه ، فقال : " ما يحملك على صيام هذه الأيام ؟ " ، قال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، إنها أيام المشاعر ، وأيام الحج عسى الله أن يشركني في دعائهم، قال : " فإن بكل يوم تصومه عدل مائة رقبة ، ومائة بدنة ، ومائة فرس ، تحمل عليها في سبيل الله ، فإذا كان يوم التروية فلك فيها عدل ألف رقبة وألف بدنة وألف فرس، تحمل عليها في سبيل الله ، فإذا كان يوم عرفة فلك بها عدل ألفي رقبة وألفي بدنة وألفي فرس تحمل عليها، وهو صيام سنتين سنة قبلها وسنة بعدها" . ويرى المفسر العلامة ابن كثير في تفسيره أن قوله تعالى : ( وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة) إنها عشر من أول ذي الحجة، وكلم الله تعالى موسى تكليماً وقربه نجياً في أيام العشر، وكتب له في الألواح في أيام العشر. وروي عن أبي الدرداء ( رضي الله عنه ) أنه قال : عليكم بصوم أيام العشر ، وإكثار الدعاء والاستغفار والصدقة فيها ، فإني سمعت نبيكم محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : " الويل لمن حرم خير أيام العشر ، عليكم بصوم التاسع خاصة فإن فيه من الخيرات أكثر من أن يحصيها العادون. وفي كتب الصالحين ما قرأت أن الله سبحانه وتعالى أهدى إلى موسى بن عمران خمس دعوات جاء بهن جبريل ( عليه السلام ) في أيام العشر ، أولهن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت ، وهو حي لا يموت ، بيده الخير وهو على كل شئ قدير. والثانية ، اشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إلهاً واحداً أحداً صمداً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً. والثالثة ، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، أحداً صمداً ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد. والرابعة ، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت ، وهو حي لا يموت وهو على كل شئ قدير . والخامسة ، حسبي الله وكفى ، سمع الله لمن دعا ، ليس وراء الله منتهى. متعنا الله ببركة هذه الأيام الطاهرة ونفعنا فيها بالعمل الصالح . هذه الأيام يفطنها أقطاب التصوف الرائق الذين يعرفون الفرق بين الوجل والوجد والوصل ، وأن تكون متصوفاً حقيقياً هذا أمر يستجلب شهودَ كثيرٍ من الرياضات النفسية والبدنية وإتمام الطاعات والتكليفات وإن بدا العبد مقصراً على الدوام ، أما أن تستحيل بغير قصد إمام المتصوفين فهذا ضرب من الاستثناء الذي لا يُطلَبُ بل انفراد يُلصق بالمرء العابد الزاهد المنقطع للطاعات والعبادات والمستأنس بالله وحده ، وربما يتختلف التصوف عن بقية التيارات الدينية المتسارعة والمضطرمة في شتى بقاع المعمورة في أنه لا يعترف بوجود منصب لأمير أو قائد أو رئيس له اللهم سوى اعتراف وئيد من بعض المريدين بقطب صوفي والالتزام بأقواله وأوراده ؛ لأن التصوف الإسلامي هو المعادل الموضوعي والطبيعي لمواضعة الحرية التي لا تقف عند حدود الاختيار الحر بين فعلين أو ذلك الاختيار ذي الدلالة القاصرة في الفهم والتأويل ، لكنها حرية ذات طبيعة لها قدر من الخصوصية التي تعني التحرر من عبودية الشهوات واقتناص الحظ من الدنيا . تماما مثلما أورد الإمام الحسن البصري قولته المشهورة " فضح الموت الدنيا فلم يترك لذي لب فرحاً " ، وحرية التصوف ذات السمة الاستثنائية لا تنفصل عن العبودية بل تقترن بها كما ذكر محي الدين بن عربي إمام العارفين بأن الحرية هي العبودية المطلقة ، لذا فحينما يختار الصوفيون إماماً لهم فهم على قصد واعٍ بالاختيار المرادف للحرية والتي تعني خلاصهم من القيود والانعتاق بتحطيمها ، وهو المقصود من قول الشريف الجرجاني في كتابه " التعريفات " وهو يستعرض مواضعة الحرية مشيراً إلى مقصودها عند الصوفية بقوله : " التحرر من شهوات النفس ، والتحرر عن كل ما سوى الله ؛ فهو تحرر من عبودية الدنيا ، وعبودية النفس ، وعبودية الشيطان ، وهي الخروج عن رقِّ الكائنات ، وقطع جميع العلائق والأغيار " . أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية(م) كلية التربية جامعة المنيا.