كتاب " الإسلام في اسبانيا " الصادر عن دار Lunwerg للطبع والنشر في كلٍّ من مدينتيْ برشلونة ومدريد باللغتين الإسبانية والإنجليزية من تأليف المستشرق الأكاديمي الإسباني خوان فيرنيت والمستعربة الإسبانية ليونور مرتنيث مرتين، وقد شغل الاثنان منصب أستاذ كرسي في جامعة برشلونة. أما الصورالجميلة التي ازدان بها الكتاب فهي من إنجاز الفنان الإسباني رامون ماساتس. يتصدّر الكتاب تقديم ضافٍ وعرض مستفيض حول التاريخ العربي في شبه الجزيرة العربية في حقبة ما قبل ظهور الإسلام وانتشاره كقوة دينية وحضارية واجتماعية وثقافية كبرى، أسّست في حقبة وجيزة امبراطورية أكثر وسعاً من رقعة الامبراطورية الرومانية، تمتد على طول السواحل الجنوبية لحوض البحر الأبيض المتوسط والشرق الأدنى وآسيا الوسطى. الفتح الإسلامي للأندلس يتعرض الكتاب إلى وصول الإسلام للأندلس عام 711م وللحالة السياسية والاجتماعية لإسبانيا خلال الفتح، وعن المراحل الأولى التي مرّ بها الفتح الإسلامي للأندلس، وما واكب ذلك من ظروف لحين وصول عبد الرحمن الداخل الملقب ب (صقر قريش) وتأسيس الدولة الأموية في الأندلس، ثم بداية عصر الإمارة ثم الخلافة هناك، حيث بدأ هذا التقليد عبد الرحمن الثالث الذي سَمى نفسَه خليفة، ولقب بأمير المؤمنين الناصر لدين الله، وكذا الخلفاء الذين تعاقبوا بعده. تناول الكتاب فيما بعد بالدراسة والتحليل الحياة الثقافية والعلمية والحضارية في هذه الحقبة التي عرفت ازدهاراً منقطع النظير، سواء في الأدب والشعر والترجمة والنقل والعمارة والموسيقى، وانتشار مختلف الصناعات، وبناء القصور والحدائق، حيث شهدت الأندلس في هذه الحقبة اتساعاً عظيماً في مختلف مرافق الحياة، كتشييد المعالم المعمارية الشهيرة مثل، مسجد قرطبة الأعظم، ومدينة الزهراء، وسواهما من المعالم العمرانية، والمآثر المعمارية الأخرى التي ما زالت قائمة الى يومنا هذا المشهود . ينتقل الباحثان للحديث عن عصر ملوك الطوائف حيث اشتد التنافس بين العناصر المختلفة وانفرد الأمراء والرؤساء من البربر(الأمازيغ) والعرب والموالي والصقالبة بالجهات المختلفة، حيث استقر البربر في الجزء الجنوبي في شبه الجزيرة الإيبيرية، واستقر الصقالبة في القسم الشرقي من البلاد، وكانت الأجزاء الباقية من وسط الأندلس وغربها في أيدي بعض الأسر القديمة مثل، بني حمود الأدارسة في مالقة والجزيرة الخضراء، وبني زيري البربر في غرناطة، وبني هود في سرقسطة، وبني ذي النون في طليطلة، وبني جهور في قرطبة، وبني عباد في إشبيلية. ويذهب الباحثان إلى أن أشهر ملوك الطوائف قاطبة وألمعهم تاريخاً هو محمد أبوالقاسم، الذي اتخذ لنفسه لقب المعتمد على الله، تشبهاً بخلفاء بني العباس في المشرق العربي . ويصف المستشرقان الإسبانيان هذا العصر بأنه كان عصراً حافلاً بالأحداث الفاجعة، والنكبات المتوالية، وكانت الدويلات الإسلامية في الأندلس (ملوك الطوائف) معرضة باستمرار للأخطارالتي كانت تحدق بها من كل جانب، وكان كل أمير يتربص بالآخر وبجيرانه ويتحين الفرص للانقضاض عليهم. فاجعة سقوط حاضرة طليطلة وفي هذا العصر وقعت الفاجعة الكبرى للإسلام في الأندلس وهي، سقوط مدينة طليطلة التي كانت حاضرة كبيرة للإسلام في الأندلس، إلا أنه أعقب ذلك انتصار عظيم للمسلمين في موقعة الزلاقة، بمساعدة أمير المسلمين المرابطيّ المغربي يوسف بن تاشفين. وبسقوط مدينة طليطلة ذهبت ريح الأندلس، وانفرط عِقدُها يقول الشاعر ابن عسال متأسّفاً راثياً طليطلة وهو أحد المعاصرين لسقوطها: يا أهل أندلسٍ شدّوا رحالكمُ /فما المقامُ بها إلاّ من الغلطِ الثَوْبُ يُنْسَلُ مِنْ أَطْرَافِهِ وَأَرَى / ثَوْبَ الْجَزِيرَةِ مَنْسُولاً مِنَ الْوَسَطِ مَنْ جَاوَرَ الشَرَ لاَ يَأْمَنْ بَوَائِقَهُ / كَيْفَ الْحَيَاةُ مَعَ الْحَيَاتِ فِي سَفَطِ وهذه الفترة من تاريخ الأندلس في إسبانيا كانت حافلة بالعبروالدروس بالنسبة للمسلمين في الاندلس، إذ عندما كانت الدولة الإسلامية موحدة الأطراف، مجتمعة الشمل متفقة على القصد، كانت عزيزة الجانب، مرهوبة السطوة، ولكن عندما تصدّعت وحدتها، وتفتت شملها، صارت حمىً مستباحاً، وبدأ عقدها يتناثر ويتساقط رويداً رويداً. وقد خصّ الكتاب باباً للحديث عن المساعدات والاستغاثات التي كانت تأتي من المغرب، خاصة من طرف المرابطين ثم بعد ذلك من لدن الموحّدين، كما أفرد المستشرقان فرنيت وليونور فصلاً خاصّاً لمملكة بني نصر في غرناطة، وقد أفاض الباحثان الحديث في هذا الفصل عن المعالم الأندلسية الشهيرة مثل، قصر الحمراء، وجنة العريف، وكذا عن الشعر في هذه الفترة خاصة شعرالتحسّر والبكاء، والندم، والنحيب والأسى، والأسف على ضياع المدن الأندلسية الواحدة تلو الأخرى. الحضارة الإسلامية وتأثيرها في أوروبا خصّ الباحثان قسماً آخر للحديث عن الإسلام وتأثيره البليغ في إسبانيا على وجهالخصوص ، ثم في أوروبا بوجه عام، وقد استشهدا في هذا الباب بأقوال كبار الكتاب والمستشرقين الإسبان المعروفين الذين يشهدون بمدى تأثير الحضارة العربية الإسلامية في إسبانيا، بل إنهما صارا يعددان مناقبَ هذه الحضارة، ويرصدان الآثار التي خلفتها في شبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال) وفي أوروبا، بالتوالي في مختلف مظاهر الحياة ومرافقها. ففي اللغة مثلاً هناك عدة آلاف من الكلمات العربية الأصل مستقرة وموجودة في اللغة الإسبانية حتى الآن، التي اعترف بها وأدرجها المعجم الرسمي للأكاديمية الملكية الإسبانية للغة، بل إن هذا التأثير امتدّ إلى المجال العسكري والبحري، حيث أن معظم أسماء رتب الجيش والبحرية في اللغة الإسبانية هي من أصل عربي، فضلاً عن الحقل الفلاحي، والزراعي وعلم البستنة والريّ حيث لا تزال بعض المناطق الإسبانية تحتفظ بنظام الري العربي حتى الآن. وامتد هذا التأثير كذلك إلى الحقل القانوني، والإداري، والتجاري، والصناعي، ويأتي الكاتبان بعشرات الكلمات الإسبانية ذات الأصل العربي للاستدلال على ذلك، وشمل هذا التأثير عالم الأدب، والشعر، والفنون، والموسيقى، والهندسة والمعمار، إلخ. ويضيف الباحثان: أنه بفضل التأثيرات العربية في مختلف مجالات الحياة الإسبانية والأوروبية تمت اكتشافات عظمىَ في تاريخ الإنسانية مثل، اكتشاف أمريكا على سبيل المثال لا الحصر، حيث أسهمت المعارف والابتكارات العربية في شؤون البحر في ذلك. ومعروف أن الرحالة كريستوفر كولومبوس استعمل الآلات العربية خلال رحلته التاريخية إلى العالم الجديد من بوصلة، وأسطرلاب وسواهما من الأدوات البحرية، بل ثمة من يقول إنه كان مرفوقاً ببعض البحارة العرب. ويصف البروفيسور فيرنيت وزوجته إسبانيا المسلمة، بأنها كانت بوتقة علم ومعرفة، وكانت مختلف المدن الأندلسية مركز إشعاع علمي كبير، مثل قرطبة، وغرناطة، وإشبيلية، وسواهما من الحواضر الإسبانية الاخرى، وكان نبلاء أوروبا وأشرافها، رجالاً ونساءً يتقاطرون على هذه المدن طلباً للعلم في جميع فروعه. وقد أبرز الباحثان بالخصوص دور قرطبة على وجه الخصوص في هذا القبيل، ودور مدرسة المترجمين الشهيرة في مدينة طليطلة في نقل العلوم والمعارف على اختلافها، التي عبر إسبانيا دخلت أوروبا وانتشرت في الغرب. الصورالتي ازدان بها الكتاب ونجد في هذا الكتاب الكبير قسماً خاصاً بأسماء الملوك والسلالات العربية والأمازيغية الإسلامية التي حكمت الأندلس منذ قيام الدولة الأموية مروراً بعصر الإمارة ثم الخلافة، وبملوك الطوائف والمرابطين والموحدين ثم بني نصر في غرناطة. كما يضمّ الكتاب باباً آخر يضمّ العديد من الشروح المستفيضة والتفاسير الدقيقة للصور المدرجة في الكتاب، التي نافت على 171 صورة بالألوان في مستوى راقٍ ورفيع، تعطي فكرة مسلسلة عن مختلف المراحل التاريخية والحضارية التي عرفها الوجود العربي والأمازيغي في الأندلس، وهي صور مأخوذة من أشهر المراجع والمتاحف والمكتبات العالمية التي تُعنى بتاريخ الحضارة الإسلامية في الأندلس. وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن هذا الكتاب التاريخي يكتسب أهمية قصوى قبل كل شيء من هذه الصور الزاهية الصقيلة بالذات، نظراً لروعتها وجماليتها وتأثيرها البليغ على القاري المتصحف لهذا الكتاب الضخم ، الذي يقدّم له فكرة مرئية حية عن المستوىَ الحضاري الراقي الذي أدركته الأندلس في ظل الحضارة الإسلامية. وتتعرض هذه الصور لأهم المدن الأندلسية الشهيرة مثل قرطبة، وإشبيلية، وغرناطة، وسراقسطة، وبلنسية، ومالقة، وجيّان (التي تنطق عند الإسبان ب "خاين")، وألمرية وشنترين وغيرها من المدن الإسبانية والبرتغالية الأخرى، ويورد المؤلفان أقوال لمشاهير المؤرخين العرب، كما تتعرض الصور لبعض مظاهر العمران والبناء في الأندلس مثل، مسجد قرطبة الأعظم، ومدينة الزهراء، وقصر الحمراء، وجنة العريف في غرناطة، وصومعة الخيرالدا، وحصن برج الذهب، وقصور إشبيلية، وقصر الجعفرية في سراقسطة، فضلاً عن صور لمخترعات عربية وللصناعات التقليدية، والأواني الذهبية والبلورية الزجاجية، والفضية، والمسكوكات الإسلامية، والنقش على الخشب، والجبس، والرخام، وصناعة الفخار، فضلاً عن صور نادرة لآلات البحر، وعلوم الفلك، والنجوم والزراعات، والمخطوطات الأندلسية الغميسة، وبقايا الآثار والمعالم العربية مثل حمامات جيّان الشهيرة، وتماثيل عصرية لشخصيات تاريخية أندلسية، ومُجسمات حيوانية، وخرائط توضيحية وغيرها من مظاهرالحياة على اختلاف مشاربها ومرافقها. ويُعتبر هذا الكتاب (السّفر) بحق شهادة حية، وتحفة فنية رائعة تأخذ بمجامع القلوب، إذ يقدم فكرة واضحة ويقدّم نظرة شاملة ويلقي الأضواء الكاشفة على الأوج البعيد الذي أدركته الحضارة الإسلامية على امتداد وجودها في شبه الجزيرة الإيبيرية. يضع أمامنا المؤلفان في هذا الكتاب صفحات عن تاريخ وحضارة وثقافة وتراث الإسلام خلال العهد الأندلسي الزاهر، الذي كانت له صلة وثقىَ بتاريخ المغرب على امتداد العصور، بحضوره الفعلي على أرض شبه الجزيرة الإيبيرية، وإسهامه الوافر في بناء صرح حضارة مزدهرة أشعت على العالم المعروف في ذلك الإبّان، وأنارت دياجي الظلام في أوروبا، التي كانت غارقة في سبات التأخر، ودهاليز التزمّت والجمود. هذه الباقات والقراءات التاريخية، والصور التي ضمها الكتاب لا جَرَم أنها ستعود بالقارئ الزمان القهقرىَ ليستحضر بها وفيها ومنها ماضياً تليداً، ومجداً ضائعاً، وتراثا نابضاً، في زمنٍ ما فتئنا نصدح مع لسان الدين ابن الخطيب الاندلسي : جادك الغيث إذا الغيث همى / يا زمان الوصل بالأندلس ... لم يكن وصلك إلاّ حلما / فى الكرى أو خلسة المختلس. االبحث خوان فيرنيت يُعتبر من أبرز المستشرقين الإسبان، عمل أستاذاً مبرزاً في جامعة برشلونة، كان عضواً في العديد من الأكاديميات العلمية في برشلونة، ومدريد، وباريس، وعمان، ولندن، وهو حاصل على العديد من الجوائز التقديرة عن عمله في حقل الاستعراب والترجمة والتأريخ ، من أشهر تراجمه من اللغة العربية إلى اللغة الإسبانية القرآن الكريم، وكتاب ألف ليلة وليلة، وله كتب عديدة حول الحضارة الإسلامية في الأندلس منها، كتابه الكبير الذي نحن بصدده في هذه العجالة . ************************************* *كاتب من المغرب ، عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا .