يعجز الكثير من المتتبعين للشأنين الإعلامي والرياضي في المغرب عن فهم مصدر القوة التي يتمتع بها فيصل العرايشي حتى توضع بين يديه مقاليد أهم مؤسسة عمومية للإعلام السمعي البصري وأهم مؤسسة رياضية في المغرب، دون أن يُكتب في سيرته الذاتية أي "إنجاز" يشفع له بذلك، فلا الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة قادرة على منافسة القنوات الأجنبية في زمن أضحى فيه الإعلام ركيزة أساسية من ركائز القوة الناعمة، ولا اللجنة الأولمبية نجحت في صناعة أبطال يعيدون للمغرب أمجاد التتويجات في المحافل الدولية. والمثير في الأمر هو أن الرجل يترقى من موقع إلى موقع دون إبراز أي كفاءة واضحة، فرغم أنه لم يُخلف إلا الفراغ في المضمون والتأثير عندما كان مديرا للتلفزة المغربية، أضحى بعد ذلك رئيسا مديرا عاما لSNRT، وفي الناحية المقابلة حصد رئاسة اللجنة الأولمبية الوطنية من بوابة رئاسته للجامعة الملكية المغربية للتنس، وهو الذي دخلت هذه الرياضة في عصره حالة من السقوط الحر بشكل يكاد أن يمحو كل تاريخها المشرق حين كان المغرب ينافس أكبر المدارس العالمية. وصول غامض للتلفزة المغربية ولم يكن مجيء العرايشي إلى التلفزة المغربية طبيعيا منذ بدايته، ففي سنة 1999 سيعلم وزير الاتصال، العربي المساري، بتعيينه مديرا لهذه المحطة العمومية من على شاشتها، بعدما كان في السابق قد تلقى اتصالا من مدير الديوان الملكي، رشدي الشرايبي، يخبره بإعفاء محمد الأيساري من المنصب، ولأن المساري توقع أن يتم استدعاؤه حول إجراءات التنصيب كما أخبره بذلك الوزير الأول حينها عبد الرحمن اليوسفي، فإن صدمته كانت كبيرة وهو يتابع الخبر كغيره من الناس، ما دفعه إلى تقديم استقالته، خاصة وأن الأمر فُسر له بأنه "رغبة ملكية" دون أي توضيحات إضافية. لقد كان العرايشي عنوان أول صدام بين حكومة التناوب والقصر الملكي، في فترة كان فيها الملك الراحل الحسن الثاني يعيش آخر أيام حياته، ولا زال التساؤل المطروح إلى الآن، هل فعلا كان الأمر يستحق ذلك؟.. ذلك أن بصمة المدير الجديد لم تتضح على مضامين التلفزة المغربية إلى اليوم، والتي ستتحول فيما بعد إلى القناة الأولى، حيث ظلت غارقة في نفس الخط المتحفظ الذي حُدد لها منذ 1961، ولا تزال مساهمتها في النقاش العمومي وقضايا الساعة التي تهم الحياة اليومية للمغاربة مباشرة ضيقة إلى أبعد الحدود، مع إضافة جرعات من "البهرجة" تحت مسمى "البرامج الترفيهية". لكن العرايشي أشرف على شيء آخر، ذي طبيعة إدارية هذه المرة، فقناة "دار البريهي" ستتحول سنة 2005 إلى شبكة قنوات تحت يافطة الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، وسيترقى هو ليُصبح الرئيس المدير العام لهذه المؤسسة التي تضم بين ظهرانيها حاليا 8 قنوات تلفزيونية وطنية وواحدة جهوية إلى جانب المحطات الإذاعية، وفي هذا المنصب سيقضي الرجل 17 عاما لم يستطع خلالها إنجاح ولو تجربة واحدة من كل تلك القنوات التي تُظهر أرقام "ماروك ميتري" أن ولا واحدة منها تتصدر المشهد وطنيا، ومن البديهي أنه لا قدرة لها على المنافسة دوليا أو حتى إقليميا. القناة الأولى.. نحو الرداءة وفي عهد فيصل العرايشي، أضحت القناة الأولى التي يفترض أنها تقود ركب الإعلام السمعي البصري العمومي وطنيا، في نظر الكثيرين عنوانا ل"الرداءة"، فالمحطة التلفزية التي كانت قادرة على استقطاب المشاهدين من مختلف الأطياف بفضل تنوع شبكتها البرامجية، التي ظلت البرامج الإخبارية والحوارية والوثائقية وحتى التحقيقات جزءا لا يتجزأ من موادها، حَشرت كل ذلك في الزاوية وراهنت على "التسلية والترفيه"، عبر برامج تلتهم حصة الأسد من الحيز الزمني وتُعرض عادة في أوقات الذروة. وبالعودة إلى شبكة برامج القناة خلال شهر رمضان الحالي، الذي يزيد فيه ارتباط المغاربة بالقنوات التلفزيونية الوطنية، نجد أن القائمة الخاصة بالبرامج المعروضة خلال الفترة ما بين السابعة صباحا من يوم الجمعة 8 أبريل 2022 إلى غاية السابعة من صباح يوم السبت 9 أبريل 2022، تتضمن 21 عرضا للمسلسلات والسيتكومات والأفلام التلفزية بين العرض الأول والإعادات، وأغلب هذه الأعمال كوميدي أو درامي، مقابل 3 عروض وثائقية فقط، الأول في الساعة السابعة و20 دقيقة صباحا، والثاني في الواحدة و10 دقائق بعد منتصف الليل، الثالث في السادسة صباحا. والمثير في الأمر أن شبكة مماثلة عُرضت قبل ذلك ب24 ساعة وأخرى قريبة منها ستُعرض خلال ال24 ساعة الموالية، حيث شُحنت القائمة بالعروض والبرامج الترفيهية، بما فيها تلك التي توصف عبر منصات التواصل الاجتماعي ب"الحامضة"، مقابل "صفر" برنامج حواري سواء كان ذا طبيعة سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، والملاحظ أن الشبكات المذكورة تتزامن مع حدث سياسي مهم، وهو زيارة رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز إلى المغرب حيث جدد التأكيد على دعم بلاده لمقترح الحكم الذاتي المغربي في الصحراء، لكن ذلك لم يتطلب من إدارة القناة بث أي برامج مواكبة باستثناء نقاشات جرت على هامش النشرات الإخبارية. فشل القنوات المتخصصة لكن فشل العرايشي يبرز بشكل أكبر عند الوقوف على حصيلته مع القنوات المتخصصة، وكمثال على ذلك نقف على تجربتي القناة الرياضية التي بدأت سنة 2006 والمغربية الإخبارية التي لم تتجاوز كونها محاولة لإعادة إحياء تجربة أخرى هجينة وغريبة هي تجربة "المغربية" التي انطلقت سنة 2004، وفي كلتا الحالتين لم تستطع الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة إنشاء محطة تُقدم منتوجا يُغري بالمتابعة، ليضطر المغاربة إلى "الهجرة" صوب قنوات أخرى. فالقناة الرياضية، القريبة من "تخصص" آخر للعرايشي باعتباره رئيسا لجامعة التنس واللجنة الأولمبية، أصبحت مثار سخرية كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، فهي عاجزة عن اقتناء حقوق أي بطولة تحظى بالمتابعة في كرة القدم مثلا، لدرجة أنها لملأ الفراغ أضحت تبث بطولات الملاعب الترابية أو بطولات مغمورة مثل كأس سلطنة عمان، أما احتكارها لبث البطولة الوطنية فلم يدفعها لتطوير منتوجها إلا بسرعة السلحفاة، إذ إن تقنية التسلل مثلا لم تظهر إلا في هذا الموسوم وهي المعمول بها في دوريات العالم منذ عقود، بل إن ديكور الاستوديو التحليلي لم يتغير إلا هذه السنة. أما القناة الإخبارية، فظلت لسنوات اسما على غير مسمى، لكونها ليست سوى إعادة بث لأخبار وبرامج القناتين الأولى والثانية، وحين دخلت مرحلة الإنتاج الذاتي اختارت تقديم مواجيز على شكل كابسولات، الأمر الذي جعلها بعيدة عن المنافسة المتوخاة مع قنوات إخبارية عربية وإقليمية، تاركة ظهر المغرب عاليا من الناحية الإعلامية وهو في غمرة الحرب الدبلوماسية مع الجزائر وإسبانيا مثلا، بل إن الرهان على هذه القناة أصبح حاليا معدوما، وهو ما تؤكده نسب المشاهدة المرتفعة لنشرات "ميدي 1" أو مشروع القناة الإخبارية لوكالة المغرب العربي للأنباء "إم 24". اتهامات بالريع والفساد لكن ضعف المنتوج وفشل المشاريع الإعلامية ليست وحدها المشاكل التي تطارد الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة في ظل رئاسة العرايشي، فرغم المدة الطويلة التي قضاها الرجل على رأس المؤسسة إلا أن مشاكلها مع العاملين لا تكاد تنتهي، وخاصة في ظل غياب ظروف عمل لائقة وحاجة منظومة الأجور إلى المراجعة، وفي دجنبر الماضي عادت النقابة الوطنية للإذاعة والتلفزيون للاحتجاج بسبب هذه التراكمات التي حملت مسؤوليتها المباشر للإدارة. ووفق النقابة المذكورة فإن الشركة تحتاج إلى فتح حوار عاجل حول منظومة الأجور ورفعها بشكل يتناسب مع الارتفاع المهول الذي عرفته الأسعار، إلى جانب تفعيل مشروع الأعمال الاجتماعية الرامية إلى إحداث "خدمات اجتماعية راقية تقطع مع الريع والفساد الذي تقوم به ما يسمى بجمعية الأعمال الاجتماعية بالشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة"، كما طالبت بتوفير "الظروف المهنية اللائقة للعمل ومحاربة كل أشكال الخروقات التي يقوم بها العديد من المسؤولين ضدا على العمل النقابي واحترام أخلاقيات المهنة وحقوق العاملين المحمية بتشريعات الشغل وطنيا ودوليا". ولا يزال منطق الولاءات والوساطات إحدى الاتهامات التي تطارد الشركة في زمن العرايشي، وهو ما دفع نقابة العاملين للدعوة إلى "الوقوف الفوري على سوء التدبير والإختلالات الإدارية وتفشي مظاهر المحسوبية والزبونية وإعمال مبدأ المحاسبة في تسيير العديد من المديريات"، وأيضا ل"فتح حوار حول إنتاج داخلي يستند على سياسة تدبيرية ناجعة وشفافة تقوم على استثمار الكفاءات الداخلية ومحاربة تبذير المال العام، وخدمة المواطن المغربي في الثقافة والفن والأخبار". السقوط الحر للتنس وإذا كان ما فعله العرايشي بالإذاعة والتلفزيون ليس كافيا، فإن الرجل وجد لنفسه منفذا إلى مجال آخر وهو المجال الرياضي، وتحديدا إلى رياضة صنعت أفراح المغاربة في زمن الثلاثي يونس العيناوي وهشام أرازي وكريم العلمي، وهي رياضة التنس، التي كانت في زمن الراحل محمد مجيد، الرئيس السابق للجامعة الملكية المغربية لكرة المضرب تُنافس على المستوى العالمي، لدرجة وصول المغرب إلى المجموعة العالمية لكأس ديفيز سنوات 2001 و2002 و2004، وكانت بطولة الحسن الثاني على ملاعب مركب الأمل بالدار البيضاء حدثا بارزا في أجندة التنس الدولية السنوية. وفي 2009 سيُصبح العرايشي رئيسا جديدا للجامعة الملكية المغربية لكرة المضرب، ومع اعتزال الثلاثي الذهبي العيناوي وأرازي والعلمي، شرعت هذه الرياضة في الغرق بشكل متسارع، لدرجة أن المنتخب الوطني الذي واجه سابقا البرازيل وإسبانيا والأرجنتين في المجموعة العالمية، سقط اليوم إلى الدرجة الثالثة لمواجهة دول من القارة الإفريقية لم يكن لها حضور في عالم الكرة الصفراء في يوم من الأيام، أما زمن بطولة الحسن الثاني في مركب الأمل، فولت بعدما قرر العرايشي نقلها إلى ملعب أصغر في مراكش تاركا ملاعب البيضاء عُرضة للإهمال. وأبدى العرايشي إفلاسا حقيقيا في تسيير رياضة التنس المغربية، فالرجل لم يجد خارطة طريق لتكوين جيل جديد من اللاعبين الشباب وغاب عنه استثمار خبرات الجيل الذهبي في ذلك، مفضلا التوجه نحو التجنيس، على غرار استقطاب الجزائري الأمين وهاب والفرنسي إليوت بن شتريت، اللذان سبقا لهما تمثيل منتخباتهما الأصلية، والنتيجة أن هذه الخطة بدورها باءت بالفشل، بل إن النتائج التي حققها اللاعبان المذكوران بألوان المغرب أضعف من تلك التي وصلا إليها في السابق. اللجنة الأولمبية أيضا لكن هذا الوضع الصادم الذي وصل إليه التنس المغربي، لم يكن كافيا لإقناع العرايشي بجمع حقائبه والرحيل عن الجامعة، بل على العكس تماما، ففي سنة 2017 أصبح رئيسا للجنة الأولمبية المغربية، في إصرار غريب على كتابة صفحات جديدة في دفتر الصدمات التي ابتلي بها المغاربة على يديه، وهو الأمر الذي ظهرت نتائجه سريعا. ففي أولمبياد طوكيو، المؤجلة من سنة 2020 إلى 2021 بسبب فيروس كورونا، لم تستطع ميدالية سفيان البقالي الذهبية والوحيدة للمغرب في هذه الدورة، والتي اتضح أن البطل المغربي حصدها بفضل جهوده الخاصة رفقة مدربه كريم التلمساني، أن تُخفي الكارثة التي تغرف فيها الرياضة المغربية التي كان ممثلوها يسقطون كأوراق الخريف وهم يخرجون من الأدوار الأولى لمختلف المسابقات وأحيانا بهزائم مُذلة، دون أن تستتبع ذلك أي مًساءلة أو محاسبة. وإن كان ذلك لا يكفي، فإن عار الغش أيضا صار يلاحق الرياضة المغربية في عهد العرايشي، ففي عهده على رأس اللجنة الأولمبية وجامعة التنس، وتحديدا في يوليوز من سنة 2021، قررت الوكالة الدولية لنزاهة التنس توقيف في حق ستة لاعبين مغاربة، على خلفية قضية تلاعب في نتائج مباريات والتعاطي للرهانات الرياضية، وقبلها، وتحديدا مارس من سنة 2020 أضافت وحدة نزاهة ألعاب القوى التابعة للاتحاد الدولي للعبة الخميس المغرب إلى قائمة الدول الأكثر خضوعا للمراقبة في تعاطي المنشطات، على اعتبار أن استخدام المواد المنشطة المحظورة لدى رياضييه "لا يزال كبيرا".