يبدو أن صفقات التسلح التي عقدتها فرنسا مع مصر، عقب وصول عبد الفتاح السيسي إلى الحكم، لم يكن ثمنها مليارات اليوروهات فقط، بل أيضا المشاركة في عمليات تصفية واسعة نفذها الجيش المصري ضد المدنيين من المهربين الذين ينشطون في منطقة الصحراء الغربية على الحدود مع ليبيا، وهو الأمر الذي لم يعارضه لا الرئيس السابق فرانسوا هولاند ولا الحالي إيمانويل ماكرون، رغم التقارير العسكرية والاستخباراتية التي حذرت من أن "مكافحة الإرهاب" ليست سوى ستار كاذب تستخدمه القاهرة للتغطية على حقيقة ما يجري. وفَجّر موقع "ديسكلوز" المتخصص في التحقيقات الاستقصائية، هذه الفضيحة التي تتعلق بالعملية العسكرية "سريلي" التي تشارك فيها فرنسا ميدانيا من خلال مراقبة وتوجيه ضربات القوات المصرية في الصحراء الغربية، الأمر الذي خرج للعلن بعد تسريب العديد من الوثائق السرية الفرنسية الصادرة عن وزارة الدفاع وأجهزة المخابرات، والتي كشفت أن استهداف الجيش للمهربين لم يكن خافيا، كما فضح التحقيق الرابط بين الصمت الفرنسي وصفقة طائرات "رافال". البداية.. صفقة ب5,6 ملايير أورو وبدأت العلاقة المصرية الفرنسية التي ستُفضي لاحقا إلى الفضيحة، في 25 يوليوز 2015، حين قام وزير الدفاع في فترة رئاسة هولاند، جون إيف لودريان، الذي سيصبح وزيرا للخارجية في عصر ماكرون وسيلعب دورا في مواصلة الصمت على الجرائم المرتكبة على الحدود المصرية الليبية، (قام) بزيارة إلى القاهرة ليلتقي بنظيره المصري وقتها صدقي صبحي، وبسرعة سيتفق الطرفان على صفقة اقتناء مصر ل24 طائرة من طراز "رافال" بقيمة 5,6 ملايير أورو، بالإضافة إلى تزويد القوات البحرية المصرية بسفينتين عسكريتين. وخلال الاجتماع الذي حضره أيضا المدير السابق للمخابرات العسكرية الفرنسية، الجنرال كريستوفر غومار، سيعرض المصريون على الفرنسيين أمرا آخر وهو المساهمة في مراقبة الحدود البرية بين مصر وليبيا التي تبلغ مساحتها 1200 كيلومتر، واقترحوا مشاركة باريس في مخطط عسكري ميداني تحت مسمى "مكافحة الإرهاب" بزعم العمل على منع تسلل عناصر "داعش" الذين كانوا يتواجدون بشكل كبير في الأراضي الليبية حينها. ولم تتأخر فرنسا في الموافقة على المقترح المصري، حيث أوفدت فريقا من 16 شخصا بينهم عناصر في الجيش وعسكريون متقاعدون إلى جانب مشرفين على مؤسسات دفاعية خاصة وتحديدا شركة CAE Aviation التي ستلعب دورا محوريا في العملية برمتها، من خلال مشاركة طائرتها المتخصصة في مجال المراقبة "مرلين 3" في رصد التحركات عبر الحدود بما في ذلك نشاط المهربين الذين سيتحولون إلى الهدف الرئيس لنيران الطيران المصري. من محاربة الإرهاب إلى صيد المهربين ووفق الوثائق المسربة، وهي عبارة عن تقارير من مسؤولين عسكريين واستخباراتيين مصريين، فإن العملية "سيرلي" التي بدأت في 2016، ستنطلق بالفعل باستهداف العناصر الذي يشتبه في انتمائها إلى تنظيم "داعش"، لكن الأمر سيتغير سريعا بعد شهرين، حيث سيصبح الهدف الأول لمصر هو نشاط التهريب، الأمر الذي أكده تقريرا صادر عن عنصر في الجيش الفرنسي بتاريخ 20 أبريل 2016، والذي قال بصريح العبارة إن عمليات الرصد التي يقوم بها الفريق الفرنسي أصبحت تستهدف المهربين. والمثير في الأمر، هو أن تقارير أخرى ستتوالى على وزارة الدفاع الفرنسية تؤكد أن المستهدفين ليسوا حتى مهربي أسلحة أو مخدرات، بل الذين ينشطون في مجال التهريب المعيشي للمواد الغذائية والمنتجات الاستهلاكية، وأغلبهم شباب لا تزيد أعمارهم عن 30 ربيعا يعانون من الفقر والبطالة، وتقول تقارير أخرى إنه مع مرور الوقت لم يعد الجيش المصري يبدي أي اهتماما بأماكن تسلل العناصر المتطرفة المسلحة، وإنما كانت يطلب من الفرنسية التركيز على مراقبة المناطق التي ينشط بها المهربون. وفي 2016 سيشارك الفرنسيون في تحديد مواقع المهربين الذين سيُستهدفون من طرف الجيش المصري 19 مرة، وهو الأمر الذي ستتوصل به بالتفصيل الحكومة الفرنسية من خلال عدة تقارير، بل الأغرب من ذلك هو أن وزارة الدفاع المصرية نفسها لم تكن تخفي هذا الأمر، ففي شتنبر من سنة 2016 ستعلن عن تدمير 8 سيارات على الحدود مع ليبيا كان يستعملها مهربون، وتشير إحدى وثائق التحقيق أن العملية تمت بعد أن حددت طائرة استطلاع فرنسية موقعها وسط الصحراء. ماكرون على خطى هولاند.. وأكثر! ومع وصول إيمانويل ماكرون إلى سدة الرئاسة في 17 ماي من سنة 2017، سيجلب معه تأكيدا على استمرار الشراكة المصرية الفرنسية في العمليات الميدانية في الصحراء الغربية، والمدخل كان هو العمليات الإرهابية التي كان ينفذها تنظيم "داعش" ضد المسيحيين المصريين، إذ استغل السيسي مكالمة هاتفية بينه وبين الرئيس الفرنسي لنيل دعمه لعمليات الجيش المصري، وهو ما دفع إدارة ماكرون لطلب معلومات حول هذا الموضوع. ووفق ما جاء في التقرير الاستقصائي، فإن الجنرال غومار، الذي حضر الاجتماع الأول في القاهرة سنة 2015 بصفته مديرا للمخابرات العسكرية، أكد لقائد أركان الجيش بيير دو فيليي، أن محاربة الإرهاب ليست أولوية للجيش المصري، وأن عمليات الاستهداف التي تجري بمشاركة فرنسية لا تُسقط عناصر "داعش" بل أشخاصا مدنيين، لكن المفاجأة كانت هي أن ماكرون سيبعث وزيرة الدفاع، سيلفي غولار، إلى القاهرة في يونيو من سنة 2017، ليس لوقف العملية "سيرلي" أو تصحيح مسارها، بل لرفع نشاطها. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، حيث إن عراب العملية، جون إيف لودريان، الذي سيتحول من وزير للدفاع إلى وزير للخارجية، سيصل هو الآخر إلى مصر للقاء وزير الدفاع المصري صدقي صبحي مجددا، من أجل تطوير الاتفاق بشكل سري، بل إن ماكرون سيتوصل بتقرير من إدارة الشؤون الإفريقية بقصر الإيليزي سنة 2019 بخصوص حقيقة تلك العمليات، لكنه سيتجاهله مقابل توقيع صفقة جديدة مع مصر لاقتناء 30 طائرة "رافال" بقيمة 3,6 ملايير أورو، في غشت من سنة 2020. شكاية دون تكذيب وتحاول الإدارة الفرنسية حاليا محاصرة تبعات التحقيق الاستقصائي، ورغم أنها لم تصدر أي نفس صريح بخصوص مضامينه، إلا أن وزارة الدفاع قالت يوم أمس الخميس إنها "رفعت شكوى بشأن انتهاك سرية الدفاع الوطني"، وفق ما أوردته وكالة الأنباء الفرنسية AFP، ناقلة عن المتحدث باسم وزارة الدفاع هيرفي غرانجان قوله، خلال مؤتمر صحفي، أن وزارة الجيوش "اتخذت إجراءات قانونية بعد هذا التسريب الكبير لوثائق سرية"، دون تحديد الجهة المستهدفة بالشكاية. وأورد المسؤول الفرنسي أنه "حصل تسريب لوثائق مشمولة بسرية الدفاع الوطني"، وأن هذا التسريب يمثل "انتهاك خطيرا للغاية للقانون، لأن ما يمكن الكشف عنه قد يظهر أمورا عن أساليب عمل الجيش، ويمكن أن يعرض أمن الأشخاص المشاركين للخطر". وأعلنت وزارة الجيوش الفرنسية أيضا أنها بدأت تحقيقا داخليا للتحقق من أن "القواعد تم تطبيقها" من قبل الشركاء المصريين" معتبرة أن "الخطوط العريضة لهذه المهمة الاستخبارية لها أهداف واضحة للغاية تتعلق بمكافحة الإرهاب، ولا تطاول القضايا الداخلية".