في كل المرات السابقة، كانت الولاياتالمتحدة تجرب كل الحلول الخطأ، وهي تتحرك في شتى الدول حول العالم، وكانت تصل إلى الحل الصحيح في نهاية الأمر، أو حتى لا تصل، ولكنها لم تكن تصل إليه إلا بعد أن تظل تجرب وتجرب، على طريقة الرجل الذي يظل يفكر ويفكر قبل أن يسلك الطريق الصواب، وقبل أن يهتدي إلى حيث يجب أن يسير! ولو أن أحداً بحث عن حالة حاضرة أمامنا يتجسد فيها هذا المعنى على أفضل ما يكون، فلن يجد أفضل من الحالة الليبية نموذجاً صارخاً أمام العيون! سوف يكتشف الباحث عن الحالة الأمثل بين الحالات من حولنا، أن واشنطن جربت منذ البداية بذل دعمها السياسي في صالح حكومة فايز السراج، باعتبارها حكومة ما يسمى «الوفاق الوطني»، أو باعتبارها الحكومة التي تحظى بشرعية الاعتراف من جانب المجتمع الدولي، وكانت الولاياتالمتحدة على رأس هذا المجتمع بالطبع، ولولا ذلك ما بقيت حكومة السراج تحكم في العاصمة طرابلس يوماً واحداً! وكان الواضح أمام كل عين، أن اعتراف المجتمع الدولي بهذه الحكومة، التي قامت في الأساس على اتفاق الصخيرات المغربي الشهير، إنما هو اعتراف راجع إلى كونها حكومة تضم في داخلها جماعة «الإخوان» في ليبيا، أو تضم تيار الإسلام السياسي بوجه عام! والغالب أن أحداً لم يكن يمانع في أن تحظى حكومة السراج بدعم المجتمع الدولي، أو بدعم الإدارة الأميركية ذاتها، إذا ما كانت بالفعل حكومة قادرة على جمع شمل المجتمع الليبي، وإذا ما كان «الإخوان» الذين يحتمون بها، ويوجدون تحت مظلتها، ويلبسون قبعتها، مستعدين للاعتراف صراحة على الملأ بأنهم لا يؤمنون بالعنف، ولا يمارسونه، ولا يحرضون عليه، وبأنهم يحترمون مبادئ الدولة الوطنية، وفي مقدمتها دستور البلاد المدني، وقانونها، ووحدتها! ولكن شيئاً من هذا لم يحدث؛ لأن حكومة السراج ما كادت تدخل مؤخراً في خلاف مع الجيش الوطني الليبي، الذي يقوده المشير خليفة حفتر، في اتجاه تطهير البلاد من أهل الشر، حتى تبين للجميع أن لها جيشاً تحتفظ به في العاصمة، وأنها توظفه في مواجهة جيش البلاد الوطني، وأن هذا الجيش الذي تحتفظ به، ليس جيشاً نظامياً بالمعنى المفهوم للجيوش، ولكنه عبارة عن ميليشيات متفرقة تحصل على سلاحها خفية عن العيون تارة، وعلناً تارة أخرى! وفي الدساتير المعاصرة للدول، نص دستوري ثابت لا يكاد يتغير من بلد إلى بلد، ولا من دستور إلى دستور، وهو نص يقول بأن الدولة، أي دولة، هي وحدها التي تحتكر على أرضها حق امتلاك السلاح، وحق استخدامه، وأن أي جهة أخرى في الدولة لا يجوز أن تمتلك سلاحاً، ولا أن تستخدمه، ولا أن تنافس الدولة في امتلاكه واستخدامه، ومفهوم أن أي دولة لا تحتكر هذا الحق لمجرد الرغبة في احتكاره، وإنما لإقرار الأمن على أرضها، وحماية حدودها، وصون استقرارها، وصولاً إلى مرحلة التأسيس لتطبيق قواعد العدالة بين مواطنيها جميعاً، دون تفرقة، ودون استثناء! وقد كانت المفارقة القائمة في ليبيا، ولا تزال، أن الجيش الوطني الليبي، ممنوع من الحصول على السلاح الذي يستطيع به الحفاظ على أركان الدولة الوطنية، وحماية حدودها، ومنع الخارجين على القانون من تهديد مواطنيها في أمور حياتهم اليومية! هو ممنوع من ذلك بقرار من مجلس الأمن في الأممالمتحدة في نيويورك، رغم أن الأممالمتحدة نفسها هي التي تمنح حكومة السراج شرعيتها، وتبعث إليها مبعوثاً أممياً من وراء مبعوث أممي، بهدف الوصول إلى حل سياسي يحمل البلاد إلى طريق المستقبل! المصدر: جريدة الشرق الأوسط