مهما قست الأيام، ومهما أجار عليك جائر، ومهما أحاط بك حيف ظالمٍ، كل ذلك لا يضاهي آلام مصيبة فراق قريب أو حبيب رحل إلى دار البقاء نتيجة إهمال و تهاون متعمّدَين بحرمانه من حقه في التطبيب أو العلاج . . ألام لا بُرء لها أحاطتها ضغينة و غصة سكنت الأفئدة سببها منظومة طبية كارثية بكلّ المقاييس. منظومة أصبح الطبيب فيها يرى العليل زبونا، وباتت بعض المصحات الخاصة عوض من أن تخرج العليل معافا، ترسل صناديق أموات في زمن الجائحة اللعينة. مصحات تنقصها أبسط المعدات و اللوازم الطبية لاستقبال المرضى. حين تغمر مياه الأمطار الشوارع و تغمر هذه الأخيرة الفيضانات، كنّا نخلص إلى أنها عرّت عن فضائح الإختلاس و الغشّ في تصريف أموال مشاريع البنية التحتية للطرقات و الأحياء؛ أمّا حدثُ الساعة، الجائحة الجائرة، الفيروس الفتّاك، فقد أسقط بدوره كلّ الأقنعة لقطاع هشّ، يفتقد ليس لأبسط متطلبات العلاج والتمريض فحسب، و إنما أصبحت تتخلله بعض الطواقم الطبية الفاقدة لِقيم الإنسانية، و لِأمانة المهنة، ليُصبح شغلها الشاغل هو اتباع أقصر و أسرع مَنفَذ إلى جَيب العليل، لتُساومه و تُزايد عليه بمصاريف علاجٍ مُبالغ فيها لا حول ولا قوة للمريض أو لأهل المريض لتوفيرها . . طواقم تركض وراء حصد الثراء و لا تأسف على حال قلوبهم التي أغشاها الرّان كما يغشى الصدأ الحديد، بل لا يكترثون لأرواح تُحصَد نتيجة احتيالهم و مكرهم. بالأمس ناداني قريب، و أفجعني بخبر فراق عزيز كان قد أُصيبت بفيروس كورونا، ضاق نَفَسا في البيت، فنُقل إلى مستشفى عامّ، كَون كثير من المراكز الصحية الخاصة لازالت تتمادى في اشتراط تأدية حوالي 60 ألف درهم كتسبيق، علاوة على طلب ما يسمى ب "النوار" أو طلب الرشوة، وذلك بالرغم من التصريح الأخير لوزير الصحة على أن ذلك يعتبر تصرفا خارج القانون. المستشفى العام مملوؤ عن آخره بالمرضى عددهم يفوق الطاقة الإستيعابية للتطبيب؛ حيث تُرك المريض مُهمّش فوق سرير دون عناية أو مراقبة، ليلفض أنفاسه الأخيرة سويعات بعد قدومه إلى المستشفى. قطاع صحي عام ضاق درعا بالأفواج المتوافدة الحاملة للفيروس من ذوي الحالات الحرجة، حيث استُنفذت الطاقة الإستيعابية لتزويد المرضى بالأوكسجين أو إخضاعهم للتنفس الإصطناعي؛ الأمر الذي جعل وزارة الصحة تخرج بقرار استعجالي يُرخص للمصحات الخاصة باستقبال المرضى حاملي الفيروس؛ و هو ما استحسنه المواطن و استبشر به خيرا، لكن سرعان ما انقلب اسبشارهم هذا إلى صدمة حيفٍ و ظلم من طرف بعض المصحات الخاصة بسبب سلوكات لاإنسانية لاأخلاقية، تعكس واقعا مريرا يثمثل في تكاليف باهضة مقابل خدمات طبّية هزيلة دون حسيب أو رقيب. فما الذي تنتظره الوزارة المعنية كي تتدخل بحزم -إنصافا للمريض أو لأهل المريض- لأجل الحدّ من هذا التجاوز و التصرف اللامسؤول؟ فما دور المفتشية العامة، إذا لم تُعجّل هذه الأخيرة برصد الخروقات ومُساءلة مقترفيها الذين يعتبرون أنفسهم فوق القانون؟ المفتشية العامّة و التي يُناط بها دور الرقابة سبق و أن أعلنت عن قيامها بمراقبة العديد من المصحات، كما أن وزير الصحة في إحدى خرجاته في 2019 كان قد دعى إلى التبليغ عن كلّ التجاوزات التي تقترفها بعض المصحات تجاه المرضى، خاصة تلك التي تهم اشتراط المصحة تقديم -شيك ضمان-، و ذلك بإخبار المفتشية العامة لوزارة الصحة. لكن في هذا الصدد يبقى السؤال مطروحا أمام الوزارة المعنية بخصوص مدى التدابير و البرامج أو الحملات التوعوية التي تبنتها هاته الوزارة من أجل إخبار المواطن بأن هناك مفتشية عامة تابعة للوزارة تقوم بدور الرقابة تجاه المصحات أو العيادات الطبية، و ما هي المعايير التي تتبعها لإثباث الخروقات و التجاوزات ضد الخارجين عن القانون في هذا الإتجاه؟ كم من مواطن اليوم يعلم أن هناك مفتشية عامة تابعة لوزارة الصحة تقوم بدور الرقابة تجاه المصحات و العيادات الطبية؟ و كم من مواطن له دراية -ما له و ما عليه- تجاه هذه المرافق الصحية من أجل تحديد شكايته و التأكد من إن كان حقه في التطبيب قد هدر أم لا؟ أسئلة قد تكون الإجابة عنها من طرف وزارة الصحة و إعلان هذه الأخيرة عن آليات تطبيقها على أرض الواقع تُشكل جانبا من الإسهام في بناء الثقة للمواطن و ثقة المريض بالطبيب و منه بالمصحة. و من جهة أخرى على الوزارة أن تنظر في مسألة ضبط تكلفة العلاج و جعلها في متناول العامة، و كذا العمل على تسريع مشروع تعميم التغطية الصحية، و التي بدون شكّ سيُساهم تطبيقها في الحد من الكثير من التجاوزات المذكورة أعلاه، كما سيضمن التطبيب لمختلف الطبقات المجتمعية.