تحتفل البشرية في شهر مايو (أيار) من كل عام باليوم العالمي للأسرة، الذي قرّرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1993 ، ويتلخّص الهدف من هذا الاحتفال في رفع الوعي بأهمية الأسرة باعتبارها اللبنة الأولى للمجتمع الإنساني، ناهيك عن أن التنمية المستدامة لا تستقيم دون مشاركتها بما يحقق الرفاه والسلام والأمن والتقدم، فهي " الملاذ الآمن" و"المأوى الدافئ" والمتكأ الذي يمكن الاستناد إليه، بما تمثّله من اطمئنان ومودة ورحمة وتآلف وتآزر. ولعلّ من المصادفات السيئة هذا العام أن تمرّ هذه الذكرى والغالبية الساحقة من العوائل محجورة ومنطوية على نفسها في حالة قلق ورعب، بسبب اجتياح وباء كورونا العالم، حيث راح ضحيته حتى كتابة هذه السطور أكثر من 300 ألف إنسان ، وإصابة ما يزيد عن 3 ملايين، وما زالت الأجواء المكفهرة والكئيبة مخيّمة، ناهيك عمّا ستتركه من انكماش على الاقتصاد العالمي، والقيود التي ستفرضها على حركة الأشخاص والأنشطة الاقتصادية في الدول الكبرى، فضلاً عن التراجع الخطير في قطاع السياحة العالمي، الأمر الذي يحتاج إلى معالجات وتدابير عاجلة وجريئة وتعاون دولي ضروري وفعّال، ليس لاحتواء الجائحة وإنقاذ أرواح الملايين من البشر، بل لحماية الفئات الأكثر فقراً والأكثر حاجة من الأسر من تأثيرات الدمار الاقتصادي وانعكاساته اللاحقة، من تعصّب وتطرّف وعنف وإرهاب. وإذا كانت السنوات السابقة مناسبة لمراجعة نقدية لما تحقق وما لم يتحقق في إطار منظومة التشريعات الدولية لحقوق الإنسان ، وخصوصاً حقوق المرأة والطفل وكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة وغيرها، فإن هذا اليوم يمرّ ثقيلاً وحزيناً هذا العام، لاسيّما بمراجعة الملفات الأساسية التي تخصّ دور الأسرة في المجتمع وقضايا الصحة والمساواة الفعلية بين الرجل والمرأة، إضافة إلى التنمية والتكامل والتضامن والتكافل الاجتماعي بين الأجيال، والتوازن في العمل والإدارة والقيادة والأجور، وفي مواجهة سياسات الفقر والإقصاء الاجتماعي والتهميش والهجرة واللجوء، بما يضع مسؤوليات وتحدّيات جديدة أمام المجتمع الدولي، حكومات وهيئات مدنية وقوى سياسية ومراكز أبحاث علمية ومؤسسات دينية، وفي كل دولة أيضاً لتوفير الفرص والإمكانات، بما يعزّز مواجهة الأمراض كالجهل والأمية والأوبئة التي اجتاحت البشرية في السنوات الأخيرة ، وآخرها وباء كورونا. والاحتفال بيوم الأسرة، ولاسيّما في تنفيذ أهداف التنمية المستدامة 2030، يأتي هذا العام والعديد من بلداننا العربية تستمر في معاناتها الشديدة، حيث تعيش ملايين الأسر العربية أوضاعاً في غاية السوء في ظلّ استمرار النزاعات والحروب الأهلية وأعمال العنف والإرهاب والتداخلات الخارجية من جهة، كما هي سوريا واليمن وليبيا ، فضلاً عن استشراء النعرات الطائفية والمذهبية والدينية والإثنية بسبب نهج التعصّب ووليده التطرّف، كما هي في العراق ولبنان وذلك بسبب نظام المحاصصة ، كما تستمر معاناة الفلسطينيين بسبب استمرار الاحتلال "الإسرائيلي" وهدر حقوق الشعب العربي الفلسطيني الجماعية والفردية. وعموماً تعاني المرأة في منطقتنا بشكل خاص والأسرة بشكل عام من العنف بأشكاله المختلفة، بما فيه العنف الأسري، الذي ارتفعت وتيرته خلال فترة الحجر الصحي، الأمر الذي يتطلّب تغليظ العقوبات التي تعالجها القوانين النافذة أو سن قوانين جديدة لحماية المرأة من العنف الأسري ومن جميع أشكال العنف والتمييز، تلك التي اعتمدها المجتمع الدولي باتفاقية العام 1979. ولعلّ هذه مناسبة للتذكير بأن القوانين بقدر ما هي انعكاس للواقع، فإنها في الوقت نفسه يمكن أن تلعب دوراً تغييرياً مثلما هو دور رادع في الآن ذاته، لاسيّما إذا صاحبها حملة إعلامية وتثقيفية لرفع درجة الوعي الحقوقي والقانوني، لتعميق التوجهات الإيجابية التي تعلي من شأن المرأة ومكانة الأسرة، بإشاعة قيم المحبة والسلام والتسامح واحترام الآخر وقبول التنوّع والتعددية وحق الاختلاف والتعبير والحق في الخصوصية والشراكة في الآن، حيث تتميّز مجتمعاتنا وثقافتنا بحق إنساني متفوّق لا يوجد في اللوائح الدولية وهو " البر بالوالدين" . وإذا كانت حقوق الأسرة قد ورد ذكرها في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وخصوصاً في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، فإن الواقع الراهن يعكس الهوة السحيقة بين ما تقرّر وبين التنفيذ، فإن هناك حقوقاً أساسية مثل الحق في الصحة والحق في العمل والحق في التعليم والحق في السكن والحق في الضمان الاجتماعي، ما تزال غائبة أو ناقصة ومبتورة في العديد من البلدان، حيث تعيش ملايين الأسر دون توفير الحدّ الأدنى من هذه الحقوق، التي لا يمكن تنشئة الجيل الجديد تنشئة سليمة وعقلانية وحرّة بغيابها، وهو ما يضاعف مسؤوليات الحكومات والمجتمعات في تأمينها، ناهيك عن مسؤوليات الدول الأكثر غنًى إزاء البلدان الفقيرة. وإذا جاء الاحتفال بيوم الأسرة هذا العام حزيناً بسبب اجتياح وباء كورونا فإن ارتفاع ضحايا العنف الأسري الجسدي والمعنوي جعله أكثر حزناً، وهو ما دفع ناشطات في فرنسا لإطلاق حملة قناع 19 تأكيداً للترابط بين كورونا والعنف الأسري. *باحث ومفكر عربي