1. الرئيسية 2. آراء حديث الألفيتين و "فردوس الفقراء" عبد الحسين شعبان الخميس 5 أكتوبر 2023 - 20:15 حين أهداني الرئيس علي ناصر محمد كتابه الجديد "حديث الألفيتين"، انكببت على قراءته، وشدّني لدرجة أنني لم أستطع أن أتركه، وأكاد أقول أن الكتاب لم يفارقني، فقد بقيت لبضعة أسابيع أستعيد بعض مواضيعه. الكتاب وخزينه التاريخي ومعلوماته الغنيّة، والخريطة السياسية اليمنية والعربية والدولية، التي رسمها، وأظهر بعض تضاريسها الوعرة، هو استمرارية لكتابيه السابقين، اللذين تناول فيهما تجربته ومذكراته وذكرياته ومواقفه وتقديراته التي غطّت ما يزيد عن ستة عقود من الزمن، وأعني بهما: "الطريق إلى عدن" و"ذاكرة وطن" (أربعة أجزاء). ولعلّ قراءتي لكتاب "حديث الألفيتين"، هو استكمال لقراءة الكتابين، ولمعرفة رؤية علي ناصر محمد ومواقفه، والمحطات المهمة في حياته، فضلًا عن تاريخ اليمن المعاصر. كتاب حواري الكتاب الجديد "حديث الألفيتين" هو كتاب حواري، حيث تتنوّع الأسئلة وتتفرّع الأجوبة وتزدحم المحاور وتتعدّد المواضيع. وعلى الرغم من تداخلها، إلّا أن المحاوِر والمحاوَر ينتقلان بسلاسة من موضوع إلى آخر ومن محور إلى محور جديد، إضافة إلى الصراحة والمهنيّة والمعرفة التي امتاز بها الصحافي اسكندر شاهر، الذي أضفى على الحوار بُعدًا شفيفًا بلغته الأنيقة وجملته الرشيقة، بحيث تمكن من استخراج معلومات هائلة وتفاصيل دقيقة ورؤى متميّزة ومراجعات جريئة ووقفات نقدٍ مسؤولة من محاورِه. لهذه الأسباب جاء الكتاب ماتعًا شائقًا، وأستطيع القول أنه كتاب مائزٌ رائزٌ، تحدّث فيه علي ناصر محمد بأريحيّة كبيرة وتلقائية واقعية، فاحتوى على إضافات واستدراكات وإعادة نظر وتقليب زوايا ونقد ونقد ذاتي، سواء لما كان قد قال به سابقًا في كتابيه الآنفي الذكر، أو لم يقله في مسيرة اليمن الديمقراطية، وخصوصًا الصراعات الحزبية والشخصية والاحترابات ومراكز القوى والشعارات الرنّانة والمزايدات الداخلية، أو في مجال العلاقات الدولية والإقليمية، بما فيها تجربة العمل من أجل الوحدة وما بعدها من صراعات شملت خفايا وخبايا، يحاول الرئيس تناولها من خلال رؤيته الجديدة برفض العنف والتمسّك بالحوار والإقرار بالتنوّع والتعددية وعدم إقصاء الآخر. واعترافًا بجهد المُحاور، أَهداه الرئيس كتابه، وهو يستحقّ ذلك لجهده المتميّز وتدقيقاته وتنقيباته بالوثائق التي استند إليها الرئيس في حديثه، الذي اعتاد أن يُقدّم المعلومة مصحوبة بالوثيقة. واختلطت في هذا الكتاب الذكريات الشخصية بالذاكرة الجمعيّة، وما هو خاص بما هو عام، إذْ لا يمكن الفصل أحيانًا بين تاريخ الرجل والتجربة اليمنية التي عاشها وكان أحد أبرز رموزها، ابتداءً من ثورة ردفان في العام 1963، ومرورًا بالمسؤوليات العديدة التي تولّاها بعد انتصارها العام 1967، ولعلّ أهمها وزيرًا للدفاع، ورئيسًا للوزراء ورئيسًا للجمهورية وأمينًا عامًا للحزب الاشتراكي اليمني، وهو الحزب الحاكم الذي تأسس من منابع ثلاث التحمت بالجبهة القومية التي كانت امتدادًا لحركة القوميين العرب، وتفرعات حزب البعث برئاسة أنيس حسن يحيى، وحزب اتحاد الشعب الذي هو وجه آخر من وجوه الحركة اليسارية والماركسية والشيوعية، برئاسة عبد الله باذيب. تحدّيات كبرى حظيَت التجربة اليمنية منذ البداية باهتمام كبير وتحدّيات أكبر، سواء على الصعيد الداخلي أو على الصعيد الخارجي، فقد كان إجلاء البريطانيين بعد هزيمتهم على يد ثوّار فقراء معدمين، حملوا أرواحهم على أكفّهم ليحرروا بلادهم، في تلك البقعة النائية حينها، والمهمة استراتيجيًا، ما أثار الانتباه مجددًا بشأن مستقبل تلك البلاد، التي امتزج فيها رصيد ثوارها الوطني الطافح، بالعروبة الوجدانية العذريّة. لكن التحدّي المركّب، لم يكن طرد المستعمرين الذين حكموا عدنوالجنوب اليمني لمدّة 129 عامًا، بل كيف يمكن لشباب في مقتبل العمر، لا يمتلك التجربة وليس لديه الخبرة ولا حتى الثقافة الكافية ليُدير الدولة التي تأسست. وكان همّها الأول توحيد المشيخات والسلطنات المتباعدة والمتناحرة أحيانًا، فضلًا عن تحقيق الأمن في خضمّ الصراع الدولي والاستقطاب العالمي، الذي سرعان ما أخذ يمتد تأثيره داخلهم، دون نسيان العوامل القبلية والمناطقية والدينية والطموحات الشخصية. كلّ ذلك واجه حركة الشباب الثوري القومي العربي في جنوب اليمن في ظروف الحرب الباردة والصراع الأيديولوجي، واحتدام مواجهات عديدة، كانت الحرب الأمريكية على فيتنام عنوانها الرئيسي، بعد العدوان "الإسرائيلي" على مصر وسوريا في العام 1967. احتفال بغدادي أتذكّر أن القوميين العرب والجناح الأساسي فيهم الحركة الاشتراكية العربية بقيادة فؤاد الركابي وهاشم علي محسن وعبد الإله النصراوي، كانوا أول المحتفين بهذا الانتصار، وقد نظّم قطاعهم الطلابي والشبابي احتفالًا في كليّة الاقتصاد والعلوم السياسية، دُعيت إليه للتحدّث عن هذا المنجز التاريخي في حركة التحرّر الوطني. وكانت القاعة تضجّ بالهتافات "من فجّر ثورة ردفان"، وكان الجواب يأتي من الجهة المقابلة "غير الجبهة القومية". ومنذ ذلك التاريخ بدأ اهتمامي باليمن، خصوصًا بوجود طلبة درسوا معنا، بينهم "أحمد محمد زيدان"، الذي أصبح سفيرًا لاحقًا، حيث شغل عضوية اللجنة المركزية لحزب الطليعة الديمقراطية، الذي كان يترأسه سلطان أحمد عمر، والذي تعرّفت عليه في عدن العام 1974. وكان آخر موقع لزيدان هو سفير لبلاده في كوبا قبل تقاعده. وعاش فيها بعد ذلك. أوّل زيارة إلى عدن كانت أول زيارة لي إلى عدن في العام 1974 لإلقاء محاضرة، نشرتها جريدة طريق الشعب حينها وهي بعنوان: "ديمقراطية التعليم والإصلاح الجامعي"، وتعرّفت في تلك الرحلة على قيادته وأُعجبت بها، وهي الترويكا: عبد الفتاح اسماعيل (الأمين العام)، المثقف والشاعر الحالم، وسالم ربيّع علي، الرومانسي الثوري الراديكالي، وعلي ناصر محمد، الذي شعرت منذ اللقاء الأول، أنه رجل الدولة الذي تدرّج في المسؤوليات، وكان هذا انطباعي. وشعرت بالكثير من الإعجاب لتواضع القيادات، فضلًا عن البساطة في إدارة الحكم وعلاقة الحاكم بالمحكوم، إضافة إلى قناعات الناس الذين التقيتهم، وهم من العامة، عامل الفندق وسائق التاكسي وصاحب متجر وابن الشارع العادي وبائع قارورات العسل السدر الدوعني والبخور العدني - الهندي، وهم من حاولت الاحتكاك بهم لمعرفة مزاج الناس، خصوصًا وكانت الصورة النمطية السائدة في البلدان الاشتراكية، أن الحاكم في واد والناس في واد آخر. واستوحيت هذه المقارنة من واقع الحال الذي كنّا نعرفه ونشعر بسخط شديد إزائه أحيانًا، وهي الظاهرة التي شهدت "عبادة الفرد" في الكثير من بلدان العالم الثالث كذلك، ومنها بعض بلداننا العربية، وهو الأمر الذي دفعني للتحرّي والاحتكاك بالأواسط الشعبية لمعرفة رأيها وانطباعاتها. وكنت قد استعدت ذلك مع الصديق "عبد الرحمن النعيمي" (سعيد سيف، الأمين العام للجبهة الشعبية في البحرين)، الذي تعرّفت عليه في عدن بواسطة الصديق شايع محسن، وكان عائدًا لتوّه من ظفّار، خصوصًا وقد استذكرنا عفويّة تلك القيادات وشعبيّتها، وكان سالم ربيّع علي قد دعانا على العشاء في قصر الضيافة "المتواضع" مع كاتشمان (كتجمن) الألماني الديمقراطي، وفلاديمير (فلوديا) السوفيتي والحسن أبا سعيد (السوداني)، وكان التلفزيون اليمني قد أجرى مقابلة معي ومع السوفيتي والألماني، استمرّت لساعتين ونيّف. وعرفت أنها بُثّت مباشرةً ودون تقطيع أو مونتاج، وكان تعليق فلوديا: إن هذا أعظم بلد ديمقراطي، وذلك انطلاقًا من تجربته السوفيتية الشديدة الصرامة. وعرفنا أنه لم يكن لدى التلفزيون فيديو تيب، فكانت جميع المقابلات ونشرات الأخبار والبرامج تبثّ مباشرةً. وقد رويت تلك الخصوصيات في كتابي الموسوم "عبد الرحمن النعيمي: الرائي والمرئي وما بينهما" (2016)، وكذلك في مداخلتي عن جار الله عمر: "كبرياء التواضع"، المنشورة بجريدة الزمان (العراقية)، على ثلاث حلقات، في 24 و25 و 26 شباط / فبراير 2019، والمعاد نشرها في كتاب "الزمن والنخب: في أنطولوجيا الثقافة العربية"، مطابع دار الآداب، عمان - الأردن، 2023. كما تعرّفت في تلك الرحلة على الصديق فوّاز طرابلسي، الذي كان على علاقة وثيقة باليمنيين، واستمرّت في كلّ العهود. يسارية فائضة أتذكّر هنا تظاهرة حاشدة شاهدتها خلال زيارتي الأولى إلى عدن. كان المتظاهرون يهتفون فيها بشعارات بدت لي غير واقعية، بل إنها خيالية، فلأول مرّة أسمع أن المواطنين وبعض الموظفين يُطالبون بتخفيض رواتبهم، وكان الهتاف "واجب واجب تخفيض الرواتب واجب واجب"، وللتعبير عن دعم حقوق المرأة، كان الشعار: "خلع الحجاب واجب.. واجب"، وهو ما استغربت منه، لأنه لا يحاكي واقع اليمن، إن لم يكن مستفزًا لأوساط عديدة، لاسيّما الدينية والشعبية. واطّلعت على بعض الإجراءات التي اتّخذتها القيادة اليمنية حينها، ولأنني عراقي وأعرف تجربة التأميم العراقية الفاشلة (العام 1964)، وقبلها تجربة مصر (العام 1961)، وكنت قد ناقشت ذلك مع الدكتور خير الدين حسيب أكثر من مرّة، فقد نظرت بحذر إلى تجارب التأميمات الشاملة، بما فيها حالة الاختناق التي وصلت إليها البلدان الاشتراكية، حيث امتدّت إلى بعض المشاغل والورش المتواضعة والبسيطة، التي لا يزيد فيها عدد العمال عن عدد أصابع اليد الواحدة، وهو الأمر الذي جرى تقليده في بعض بلدان العالم الثالث، بما فيها اليمن، حيث شملت التأميمات حتى سفن الصيد. وبدا الأمر بالنسبة لي نوعًا من اليسارية الفائضة والثورية المتطرّفة والتقليد الأعمى، مثلما هي الترويكا التي كانت تقليدًا للتجربة السوفيتية: الأمين العام + رئيس مجلس السوفييت الأعلى + رئيس الوزراء، ولم تفض تلك التجربة في الأصل والفرع، سوى إلى صراعات وتنحيات واستبعاد، ولم تخلو من العنف في أغلب الأحيان. اعتراف بالأخطاء لم يُهمل الرئيس علي ناصر محمد وهو يُدبّج آراءه ويجيب على أسئلة الصحافي الذكية والجريئة، إلّا الاعتراف بذلك، مشيرًا إلى التخبّطات والأخطاء ومحاولات إسقاط الفكر على الواقع، دون حساب لخصوصيات اليمن وعاداته وتقاليده ودرجة تطوّر مجتمعه، ناهيك عن محيطه العربي، لاسيّما دول الجوار. هذه الخلاصة الدقيقة والجريئة يقدّمها للقارئ بخبرة السنين، فهو أحد قادة اليمن الكبار، بل زعيم الجنوب الأول من العام 1980 ولغاية العام 1986، فيستعيد التجربة والخسارات التي حصلت فيها منذ العام 1967، مرورًا بأحداث العام 1969 (تنحية الرئيس قحطان الشعبي)، والعام 1977 (اغتيال الرئيس ابراهيم الحمدي) والعام 1978 (اغتيال الرئيس ابراهيم الغشمي في 24 حزيران / يونيو 1978 وإعدام الرئيس سالم ربيّع علي في 26 حزيران / يونيو 1978)، أي بعد يومين من اغتيال الغشمي، لاتهامه الضلوع بعملية الاغتيال. وشهدت اليمن فاجعةً كبرى في العام 1986، حيث اندلع الصراع الدموي والذي أودى بحياة المئات من المدنيين الأبرياء العزّل، وهم خارج دائرة الصراع، كما راح ضحيّته مئات الضحايا من الفريقين في عشرة أيام فقط، بينهم عبد الفتاح اسماعيل وعلي عنتر وعدد من القيادات التاريخية. وقد خلخلت تلك الأحداث كيانية جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وأضعفت الثقة بمستقبلها. وقادت لاحقًا إلى الهروب من الأزمة لوحدة اندماجيّة مع الشمال في العام 1990، لكنّها سرعان ما تزعزعت فاندلعت حرب العام 1994، التي دمرّت العديد من البنى التحتية والهياكل الارتكازية والمرافق الحيوية، وخصوصًا في عدن، علمًا بأن الوحدة هي مطمح لكلّ يمني. وكان علي ناصر محمد من أوائل المؤمنين بها والداعين إليها، لكنه، مثل الكثيرين، كان من ضحاياها يوم اضطر إلى الرحيل من صنعاء بعد إعلانها، وكان ذلك شرطًا من رفاقه في الحزب الاشتراكي كما يقول، ولعلّنا نستذكر عنوان رواية المبدع اليوناني كازانتزاكيس، "الأخوة الأعداء". كتاب علي ناصر محمد يعرض الصراعات الحزبية والشخصية على السلطة في اليمن، وصراعات القبائل والمحافظات على النفوذ، وسبق أن أطلقت على مثل هذه الصراعات، صراع "القبائل الماركسية"، وهو لا يستثني أحدًا من المسؤولية، بمن فيهم نفسه، وبالطبع المسؤوليات الأساسية تقع على أصحاب القرار من القيادات العُليا، ويتحمّل كلّ قدْره منها، وذلك بسبب المنافسات والحساسيات ومراكز النفوذ، فضلًا عن رؤى واجتهادات كانت تدور حول الطريق الذي ينبغي أن تسلكه اليمن، إضافة إلى الصراع حول السبيل الأمثل للوصول إلى الوحدة مع الشطر الشمالي، فبين عدنوصنعاء ما صنع الحداد، وبعض الرفاق كان يريد الإطاحة بنظام الشمال ليلتحق بنظام الجنوب الاشتراكي، وحين تتوفّر مستلزمات الوحدة على أساس فكري، وبعضهم، وفي مقدمتهم علي ناصر محمد، كان يدعو إلى الوحدة عبر الحوار والاتفاق السلمي مع الشمال، وكان يريدها وحدة تدرّجية بخطوات ملموسة وعمليّة، ولاسيّما بعد تشكيل المجلس الأعلى للشطرين، كما يقول. ال KGB لا ينفي الرئيس علي ناصر محمد دور العنصر الخارجي في الصراع، حسب كلّ مرحلة، فإذا كان معروفًا انزعاج القوى الامبريالية والرجعية في المنطقة من تجربة اليمن الديمقراطية ومحاولات إجهاضها، ومنع قيام أي اتحاد بين الشطرين، فإن لأصدقاء التجربة دور آخر، ربما لا يقلّ سوءًا، سواءً من بعض القيادات الحزبية العربية والفلسطينية التي كانت تؤلّب فريقًا ضدّ آخر، أو من الأجهزة الأمنية السوفيتية ( KGB - جهاز أمن الدولة). وقد نظرت تلك الأجهزة بسلبية وتشكّك إزاء بعض خطوات اليمن على الصعيد الخارجي، وتبعًا لذلك اتّخذت إجراءات محمومة وفقًا لتقارير وكلائها، ويذكر أمثلة على ذلك منها الزعم بأن اليمن تريد تغيير مصادر سلاحها بالتوجّه نحو الغرب، وتصوير محاولة اليمن التقارب وتطبيع العلاقات مع دول الجوار، وخصوصًا عُمان والإمارات وغيرها، باعتبارها تراجعًا عن نهج العداء للإمبريالية والصهيونية والرجعية ومهادنة لها، فضلًا عن وشايات وأقاويل، بعضها لا أساس له من الصحّة، لتشويه صورة القيادة في اليمن، والانحياز إلى جانب ضدّ آخر. فإضافةً إلى عوامل الصراع الداخلية المتراكمة والحساسيات الشخصية المتفاقمة، فإن علي ناصر محمد يعزو أحداث 13 يناير 1986 (الاثنين الدامي) إلى التدخلات الخارجية أيضًا، بما فيها التحريضات السوفيتية، التي كانت تدفع باتّجاه تأجيج نار الصراع، ويقول في هذا الصدد باستغراب: على الرغم من أننا كنا نُحسب على القطبية أو المحور السوفيتي الاشتراكي، في حين كان المحور الآخر محسوبًا على واشنطن الرأسمالية الإمبريالية، إلّا أن ذلك لا يمنع من تدخّل الأجهزة الأمنية لمصالحها الخاصة. وقد حدّثني عن أنه كان آخر من التقى أندروبوف، الأمين العام للحزب الشيوعي السوفيتي، واستمرّ اللقاء إلى أكثر من 4 ساعات (مع غداء)، وقد استجاب أندروبوف لجميع طلباته، وأوعز بتنفيذها، وقبل انتهاء اللقاء أراد أندروبوف توديعه، لكنه لم يستطع الوقوف، وأخذ يتصبّب عرقًا، بل إن قواه قد خارت واضطر إلى الجلوس، حيث حضر طبيبه الخاص في الحال، لإسعافه، وقال محمد: بقينا في حالة ذهول لعدّة دقائق، لكنه بعد ذلك نهض وصافحنا بحرارة، وكانت تلك آخر مقابلة لأندروبوف مع زعيم أجنبي، إذْ توفي بعدها في 9 شباط / فبراير 1984. بتقديري أن مسألة العلاقات بين الدول شيء، وعلاقة الأشخاص بالأجهزة الأمنية شيء آخر، فالأجهزة الأمنية الاشتراكية أو الرأسمالية لا تتورّع عن شراء ذمم حتى الأصدقاء، باستغلال نقاط ضعفهم، لحساباتها الخاصة، بقدر ما تسعى إلى اختراق صفوف الأعداء وجمع المعلومات عنهم وتوظيفها ضمن ظروف الصراع، وهذا ديدن جميع الأجهزة الأمنية في العالم. حين دعتني وزارة الخارجية الألمانية في العام 2011، مع عدد محدود من الخبراء في المجتمع المدني للاستماع إلى وجهات نظرنا بخصوص الربيع العربي، بعد تجربتيْ تونس ومصر. قلت في بداية حديثي: أننا نجلس في وزارة الخارجية، وهي بالقرب من وزارة أمن الدولة، التي كانت تدير الجهاز القمعي المعروف باسم شتازي، الذي كان يُرهب الناس، ويضطّر المئات بل الآلاف إلى الارتباط به كوكلاء، بمن فيهم شخصيات عربية وأجنبية، شيوعية وغير شيوعية، وهو ما نشرته الصحافة بعد الإطاحة بجدار برلين في 9 تشرين الثاني / نوفمبر 1989. الجدير بالذكر أن هذا الجهاز درّب العديد من القيادات الأمنية في البلدان العربية على ممارسة التعذيب وآلاته وأساليبه الحديثة، وهي التي ينتفض ضدّها الناس في بلادنا. مفاجأة من العيار الثقيل المفاجأة في كتاب "حديث الألفيتين" وفي مذكرات الرئيس محمد، التي أشرت إليها، أنه يتّهم جهاز أمن الدولة السوفيتي KGB صراحةً، بل ينسب إليه التدخّل والتحريض ضدّ نظام منغستو هيلا مريام عبر الخبراء والعسكريين السوفييت بشكل خاص، الذين اعترفوا بعد فشل محاولة الانقلاب ضدّه في العام 1988، وكانوا بوضع مزر، بأنهم وراء دعم المجموعة الانقلابية، وهم من خطط لذلك لنحو عام. ثم يذهب بعيدًا ليشير إلى تدخلات الأجهزة الأمنية السوفيتية في انقلابات القصر في أفغانستان، والإطاحة بزعيم لحساب آخر (حفيظ الله أمين و نور محمد نجيب الله) ، ومن ثمّ الإطاحة بالآخر لحساب بابراك كارمل، وهو ما يذكره الكاتب الروسي ألكسي فاسيليف في كتابه "من لينين إلى بوتين" (2018)، إضافة إلى ما هو معروف من تدخلات واجتياحات للمجر (1956) وتشيكوسلوفاكيا (1968) وغيرها. ويشير علي ناصر محمد إلى أن هناك من كان يعمل لصالح السوفييت ويسرّب إليهم المعلومات المحظورة في اليمن. ويبدو أن مرحلة الشيخوخة والانحطاط كانت قد بدأت بالنسبة للسوفييت، بتفاقم دور البيروقراطية الحزبية والاخفاقات الاقتصادية وصولًا إلى الاختناقات، فضلًا عن الواحدية والإطلاقية وشحّ حريّة التعبير. كلّ ذلك في ظروف سباق التسلّح، الذي لم يعد ممكنًا فيه مجاراة الولاياتالمتحدة، وخصوصًا ببرنامج "حرب النجوم"، الذي خصصت له تريليوني دولار. وهكذا أخذت الكتلة الاشتراكية تتحلّل من داخلها حتى سقطت بالأحضان مثل التفاحة الناضجة. وهكذا كان مسلسل التراجع والانزياح، حيث اتّخذ الرئيس محمد أنور السادات خطوة "طرد الخبراء السوفييت" من مصر 1972، بعد أن وقّع معاهدة صداقة وتعاون معهم في العام 1971، ثمّ بدأ مأزق التدخّل السوفييتي في أفغانستان نهاية العام 1978 وبداية العام 1979، حيث بدأ النظام يترنّح ويتخبّط وتظهر عيوبه إلى العلن، وكأنه انعكاس لقيادته الهرمة، فبدأ العدّ التنازلي. وفي هذه المرحلة تصرفوا باليمن وغيرها بطريقة فجّة في محاولات تطويع حلفائهم، كي لا يخرجوا من الطوق، وهو أمر اتّبعوه مع العديد من الأحزاب الشيوعية. ونتذكّر تنظيرات "العلماء" السوفييت التي سبقت تلك الفترة بشأن الخلاف داخل الحزب الشيوعي السوري وإنكارهم وجود أمّة عربية، حيث تكرموا بالقول "أنها أمّة في طريق التكوين"، وهي إشكالات، نظرية وعملية، أثارت جدلًا واسعًا ونقدًا شديدًا، بعضه من داخل الشيوعيين ، وأدّت إلى انقسامات في صفوفهم. وقد روى كريم مروّة لكاتب السطور، كما جاء على ذكره أكثر من مرّة في كتبه ومداخلاته، كيف تدخّل السوفييت في الحزب الشيوعي اللبناني لمعاقبته على بعض مواقفه التجديدية ومحاولته مراجعة تاريخه، واتّهموا قائده جورج حاوي بأنه يعمل لصالح المخابرات الأمريكية، وذلك بتأليب من أحد قادة الأحزاب الشيوعية المحسوبة على موسكو والمعتمدة لديها، وقد تبنّى سوسلوف منظّر الحزب، وباناماريوف مسؤول العلاقات الخارجية، تلك "التهمة الزائفة الرعناء"، وهو ما جئت عليه في كتابي "المثقف وفقه الأزمة - ما بعد الشيوعية الأولى"، دار بيسان، بيروت، 2016. وقد نشرت الصحف، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، أسماء العديد من قيادات وأعضاء الأحزاب الشيوعية الذين كانوا يعملون كوكلاء لدى جهاز ال KGB، وغالبيتهم لمصالح شخصية وامتيازات مادية ومعنوية، حتى وإن برّر بعضهم لاعتبارات عقائدية، سواء بعلم قياداتهم أو بدون علمها، وهو ما كانت تسكت عنه القيادات أيضًا. وهذا موضوع بحاجة إلى معالجة خاصة ومستقلّة، ليس مجالها في هذه المطالعة، لكن الرئيس علي ناصر محمد أثارها بشكل صارخ بشأن التجربة اليمنية. كتاب علي ناصر محمد بحاجة إلى وقفات أخرى، خصوصًا كيف تحقّقت الوحدة؟ وكيف انهارت؟ وما هي أهم المحاولات التي جرت بعد ذلك لفصل الجنوب؟ والحرب التي ما تزال تدور رحاها في اليمن منذ العام 2015، "عاصفة الحزم"، وكان رأيه فيها قاطعًا، ليس فيها لا غالب ولا مغلوب، ولن يستطيع أحد دخول صنعاء، إلّا عبر الحوار والاتفاق. وعلى الرغم من الهدنة الطويلة خلال العام الجاري، والمؤتمرات الدولية العديدة، إلّا أنه لم توضع بعد خريطة طريق مقبولة من جميع الفرقاء، تمهيدًا للحلول والمعالجات بشأن مستقبل اليمن الذي يريده علي ناصر محمد حرًّا مستقلًا من أية إملاءات دولية أو إقليمية. خطاب علي ناصر محمد يتطلّع إلى فيدرالية تحترم الخصوصيات، وتأخذ بنظر الاعتبار التطوّر المتفاوت ومعالجة آثار الحروب والصراعات بمراعاة مصالح الناس وهمومهم. والمهم وقف أي شكل من أشكال النزاع المسلح، والبدء بالحوار دون تهميش أو إقصاء، لرسم خريطة جديدة ليمن جديد يتّبع طريق التنمية المستقلة، ويحظى بدعم اليمنيين وتوافقهم دون محاصصات أو تقسيمات، فضلًا عن تعايشه مع محيطه العربي والإسلامي . خلاصة وخاتمة وأختتم هذه السردية بهذه الفقرة من كتاب "حديث الألفيتين"، والتي يُلخّص فيها علي ناصر محمد تجربته، حيث يقول: "وقد عبّرت عن اعترافي بأن السبب الأهم لأحداث يناير 1986 وما قبلها وما بعدها، هو الصراع على تحقيق الوحدة، وغياب الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، وتعذّر الاحتكام إلى الحوار في إطار الحزب والمجتمع... وأن عدم تمكننا من بناء نموذج ديمقراطي نحتكم إليه في خلافاتنا كان وراء الكثير من الاحتقانات في تجربتنا، التي جرى خلالها التخلّص من الكثير من القيادات عند العام 1967 وإلى العام 1990". ولعلّ مثل هذا الكلام يفصح عن الأخطاء والخطايا التي وقعت بها التجربة اليمنية، التي بالرغم من كلّ ما يُقال عنها، فقد حقّقت نجاحات لا يُستهان بها، مثل إقامة نظام إداري مؤسسي فيه قدر من العدالة والمواطنة، وتمكنت خلال فترة قصيرة من إحداث تطوّر اجتماعي شمل إعلان الصلح بين القبائل وإنهاء حالات الثأر، وتأسيس بنية تحتية للتعليم المجاني بجميع مراحله، فباعتراف اليونيسكو فإن اليمن كانت الأفضل تعليمًا في شبه الجزيرة العربية 1985، إضافة إلى التطبيب المجاني، لكن غياب الشرعية الدستورية لحساب الشرعية الثورية، جعل الثورة تأكل أبناءها، وذلك في ظلّ غياب حكم القانون والاحتكام إلى السلاح بدلًا من مقارعة الحجّة بالحجّة والرأي بالرأي.