1. الرئيسية 2. لهيب الصحراء لهيب الصحراء - ضيوف أبي مصعب [ 4 ] محمد الساحلي الأحد 26 مارس 2023 - 22:13 رواية لهيب الصحراء هي حكاية عن مقاتل داعشي يراجع أفكاره خلال عملية بين ليبيا والمغرب حين يكتشف فساد أفكار داعش، وتحكم بعض الأنظمة العربية فيها. خلال رحلة أبي حفص عبر صحراء ليبيا، متوقفا في مخيمات تيندوف في الجزائر، يكتشف العلاقات السرية بين أمير داعش في ليبيا والمخابرات الجزائرية. يجد أبو حفص نفسه في مواجهة التناقضات التي يرزح تحتها الفكر الداعشي، وكيف أن القادة يصطادون الشباب مستغلين لحظات ضعفهم الإنسانية لملئ رؤوسهم بأفكار متطرفة وفاسدة. حين يقرر أبو حفص التخلي عن العملية والهروب من سجن أفكار داعش، يجد أمامه ضابطا من المخابرات الجزائرية لهما معا تاريخ مشترك، وعندها تبدأ المواجهة، ويشتعل اللهيب في الصحراء. [ 4 ] "إنهم ضيوف أبي مصعب." كانت الجملة الوحيدة التي وصلت لأذني أبي حفص من كلام الشاب مع الجندي على بوابة السياج، أثناء تفريغ جنود آخرين لحمولة الجمال. جاء ضابط، برتبة ملازم، وفي يده دفتر يتحقق من التموينات التي أحضرها الشاب. ثم أشار إلى جنديين، بعد إتمام التدقيق، فحملا صندوقا مغلقا إلى أحد الجمال، وأشار إلى أبي حفص والرجال أن يتبعوه، في حين بدا أن الشاب سيعود أو سيكمل طريقه إلى مكان ما، رغم أن الشمس كادت تدفن تماما في أفق الرمال. استغرب أبو حفص من حمولة الشاب. من أين أتى بالخضروات والتموينات وهو القادم من الجنوب حيث لا شيء إلا الصحراء القاحلة؟ أو ليس الأسهل لهذه الثكنة العسكرية أن تأتيها التموينات من الشمال؟ وماذا في الصندوق الذي أخذه الشاب؟ يعرف أبو حفص أنه لا جدوى من هذه الأسئلة العبثية. منذ انظمت الكتيبة إلى التنظيم لاحظ أن الأمور ما عادت تتم بذات المنطق والعقلانية كما تعود خلال أيام القاعدة. تبع الرجال الملازم الذي قادهم إلى مبنى صغير في نهاية الثكنة، عند ما يبدو كأنه مهبط للطائرات المروحية، فوجدوه فارغا إلا من صف من مرتبات النوم النحيفة وعلى كل منها وسادة هي أقرب لكيس من القش. كانت أشهرهم الستة في مخيم التدريب متقشفة، لكن بالتأكيد أسِرتهم كانت أفضل من هذه. "سيأتيكم بعد قليل طعام العشاء. ارتاحوا بعد ذلك، وستأخذكم المروحية في الصباح إلى أبي مصعب." قال الملازم بلهجة جزائرية لم يملك أبو حفص إلا أن يبتسم لها حنينا. منذ شهور وهو لم يكن يسمع سوى ما يفترض أنه العربية الفصحى. وهي في الحقيقة، باستثناء عربية القائد المتكلفة وعربية الأخ يونس الأنيقة، كانت عربية ركيكة تلوكها ألسن لا تفرق بين الفعل والفاعل والمفعول به. أمَّ أبو حفص الرجال لصلاتي المغرب والعشاء، وحين انتهوا وجدوا صحفة طعام في انتظارهم. لدهشة الرجال كان الطعام متنوعا وفخما، عكس ما توقعوا مقارنة بأسرة النوم الأرضية والوسادات الخشنة المتسخة. التهم الرجال لحم الضأن الذي اشتاقوا إليه. حصلوا على فخذ كامل لاحم نقي من الشحم، وأتبعوه بطبق من الخضروات، وختموا بموز طازج، ثم كأس كبير من شراب الزبيب. كان أبو حفص، عكس الرجال الذين أرفقوا الأكل بضجيج مزاحهم، صامتا كما اعتادوا منه، لا يتكلم إلا حين يوجه إليه الكلام مباشرة، ودائما ما تكون ردوده مقتضبة. لم يفهم الرجال سر صمته ولا صرامة ملامحه، لكنهم تعودوا على ذلك بعد الأشهر الست التي صاحبهم فيها في المخيم. يشعر أبو حفص، أنه وإن كان يبعث على النفور بسبب صمته وعزوفه عن ترف الكلام اليومي مع الرجال، إلا أنهم في قرارات قلوبهم يكنون له التقدير والاحترام، فمكانته محفوظة والجميع يعرفون مساهماته في التنظيم، والقاعدة من قبل. كان هذا يسعده من قبل، والآن صار يتمنى نسيان ذلك الماضي الذي يثقل عليه. بقي منصتا لكلام الرجال وإن لم يشعر يوما بفضول المشاركة. إنما شعر هذه المرة بفضول لمعرفة ما الذي أتى بهم إلى التنظيم وما الذي دفعهم للتطوع لتفجير أنفسهم بكل هذا الحماس، هذه الفرحة، وهذا الحبور. انتقلوا، بعد أن خف مزاحهم، للحديث عن الأخ أسامة، وصمتوا حابسين أنفاسهم حين وجه الأخ يونس سؤاله إلى أبي حفص. "ما رأيك يا أبا حفص في قرار القائد. ألم يكن الأخ أسامة معذورا في التغيب عن صلاة الجماعة؟" يدرك أبو حفص أن الرجال يعلمون بأن القاعدة الأولى في التنظيم هي الولاء المطلق للقادة. القائد لا يناقَش أبدا في قراراته مهما تكن. كل من تسول له نفسه استفسار أو معارضة قائد ما في قراره سيكون مصيره حسامٌ بتارٌ يفصل رأسه عن جسده. لكن لا أحد من هؤلاء سيعود حيا من هذه العملية، ولذلك ليس لديه ما يخشاه من إطلاق العنان لأفكاره. "حتى وإن لم يكن معذورا. العقاب كان قاسيا." "ليس قاسيا. سيدنا رسول الله أمر بذلك." انتفض أحد الرجال قائلا بعربية تغلفها اللهجة المغربية، فتبسم أبو حفص ابتسامة لم ينتبه أحد للشفقة المكتنزة بها. "حتى لو سلمنا بصحة الحديث، إنه ليس أمرا. الرسول، عليه الصلاة والسلام، لم يفعل ذلك حتى نقتضي به. إنما قال بأنه همّ أن يفعل. ولو سلمنا بصدقية الحديث فإن ما نستنتجه من الحديث هو التأكيد على أهمية صلاة الجماعة التي لا يجب التغيب عنها إلا للضرورة القصوى." نهض أبو حفص يغسل يده في طست ماء، ثم استدار إليهم وتابع قبل أن يعلق أي منهم. "ثم أليس محمدا، عليه أزكى الصلوات والتسليم، رسول الرحمة للعالمين؟ كيف يأمرنا بأن نعاقب بهذه الوحشية؟" "الصلاة هي ما يفرقنا عن أبناء القردة والخنازير." علق رجل آخر ولم يستطع أبو حفص اخفاء التأفف من ملامحه. "هل انقطع الأخ أسامة عن الصلاة؟ هو تخلف عن صلاة جماعة واحدة وقد كان مريضا. حتى لو كان مخطئا، إن الله يغفر ما هو أكبر من ذلك، فكيف نهرع نحن لعقابه بهذه اللهفة؟" أحس أبو حفص باحمرار الغضب يصعد إلى وجهه، فصمت. أحس بندم لمشاركته في هذا الحديث، وإن تذكر أنه حين كان في عمرهم كان بمثل اندفاعهم الأخرق، يردد كلام الشيخ الزياني كأنه وحي منزل، لا يأتيه الباطل من أمام ولا من خلف. "الأهم من ذلك،" قال الأخ يونس، وتابع بهدوء، "أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد نهى عن التحريق، وقال في أكثر من حديث شريف ورد في صحيح البخاري، بأن النار لا يعذب بها إلا الله، ولا يجب أن نعذب بعذاب الله، فإنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار." استحسن أبو حفص تدخل الأخ يونس فمنحه ابتسامة مشجعة، وذهب إلى ركن المبنى يتمدد على أبعد فراش، وترك لتدفق نهر ذكرياته سد أذنيه عن كلام الرجال الذين واصلوا حديثهم المحموم. كان قد مضى على وفاة والده سبعة أيام صار خلالها جسدا دون روح. كميت حي يقوم بما يجب أن يقوم به ابن ذكر وحيد لأم كانت طيلة عمرها ربة بيت لا تغادره إلا رفقة زوجها لزيارات عائلية محدودة، وأخا لأخت في عز المراهقة. في اليوم السابع جاء الشيخ الزياني. انهالت، على الباب الحديدي، الطرقات السريعة الصاخبة المميزة لنفاذ صبر الأطفال فنهضت جثته إلى الباب ليجد طفلا يشير لاهثا بيسراه إلى مدخل الزقاق: "الشيخ يقول لك أن تذهب للقائه،" ثم جرى للحاق برفاقه المنتظرين لإكمال مباراة كرة قدم يلعبونها بصنادل صيفية وأحذية ممزقة يركلون بها كرة مطاطية مهترئة الانتفاخ. بقي دقائق يتأمل في الأطفال بأعين زجاجية قبل أن يتذكر رسالة الطفل فاستدار إلى أسفل الزقاق ورأى شيخا يشير إليه أن يلحق به. لا يذكر أنه رأى هذا الرجل من قبل. دخل وأقفل الباب غير ناوٍ تلبية الدعاء، لولا أن ابتسامة الشيخ الغريبة بصفائها انطبعت على عينيه وانتقل تأثيرها على مهل إلى دماغه فتفاعلت هنالك لتضخ في جسده شعورا لذيذا ورغبة بالمزيد، فعاد واستدار على عقبيه وخرج إلى الشيخ الذي صار يظهر له الآن كملاك يشع نورا. "عظم الله أجركم في وفاة الوالد. إنا لله وإنا إليه راجعون." "شكر الله سعيكم و—" واحتضنه الشيخ. شعر بدفء ساحر وراحة عظيمة، وتمنى لو يبقى للأبد في حضن الشيخ. لكن الشيخ سرعان ما أخرجه من جنة حضنه، وربت بكلتا يديه على كتفيه. "رافقني بني لصلاة العصر." وأخذه إلى المسجد، توضآ معا، وجلسا يتحدثان منتظرين معا آذان العصر، وبعد الصلاة خرج الشيخ ومعه رجل ولد من جديد ذلك اليوم. رجل قال له الشيخ وهما يخرجان من باب المسجد: "أبو حفص. هذا هو اسمك ابتداء من اليوم." "هل أتخيل أنك صرت كثير الشرود مؤخرا؟" ابتسم أبو حفص وهو يفكر أن الأخ يونس اكتسب عادة إخراجه من أمواج ذكرياته بأسئلته البريئة التي لا يغيب عنها الدهاء. اعتدل جالسا ورد على السؤال بسؤال: "أخبرني يونس، كيف ولماذا انضممت للتنظيم؟"