بداية يقتضي منطق الأشياء التعريف بالموضوع المرغوب في دراسته والخوض فيه. والدولة من المواضيع التي تعددت وتنوعت تعريفاتها بشكل قل نظيره، وذلك بحسب المنطلق الفكري أو السياسي أو الديني أو الإيديولوجي لواضع التعريف. ويتفق فقهاء القانون الدستوري على أن الدولة عبارة عن جماعة من الأفراد يقيمون على وجه الدوام في إقليم معين تدير شؤونهم هيئة حاكمة ذات سيادة. وبذلك تتكون الدولة من عناصر أساسيّة لا يمكن أن تقوم بدونها وهي: الإقليم، والشعب، والسلطة السياسيّة التي تقوم بفرض النظام على أفراد شعبها والسهر على أمنهم مع تمتعها بكامل السيادة على أراضيها في مواجهة غيرها من الدول. والمقصود بطبيعة الدولة في حديثي هو أساس الشرعية فيها إن كان دينيا أم مدنيا، ربانيا أم شعبيا. وإذا كانت مفاهيم “شكل الدولة” و”نظام الحكم في الدولة” معروفة ومكرسة في القانون الدستوري، فإن مصطلح “طبيعة الدولة” لم أجد له أثرا في عدد من المصادر المختصة التي رجعت إليها. فهي لا تدخل في “شكل الدولة” التي يصنفها القانون الدستوري إلى دولة بسيطة (موحدة) ودولة اتحادية (فدرالية) و دولة كاملة السيادة ودولة ناقصتها. ولا تعني “نظام الحكم” الذي يُصنًّف إلى ملكية وجمهورية. ولعل أفضل تصنيف في نظري هو الذي يقسم الدول من حيث نظام الحكم فيها إلى ديمقراطية ودكتاتورية. ففي كل صنف من هذين الصنفين يمكن إدراج جميع أنظمة الحكم حسب دور الإرادة الشعبية في ممارسة السلطة. فالدولة الديمقراطية قد تكون ملكية أو جمهورية، برلمانية أو رئاسية، ليبرالية أو اشتراكية. والدولة الدكتاتورية قد تكون فاشية أو عسكرية، تيوقراطية أو شيوعية، فردية أو أوليكارشية. وهكذا يكون احترام الإرادة الشعبية (انتخابات حرة…) والحقوق والحريات الجماعية والفردية والتداول القانوني على السلطة من أهم المقاييس التي يُحكم بها على نوعية النظام السياسي للدولة. وأنا أعتقد أن الصفة الدينية للدولة ترتبط بطبيعتها وسند الشرعية فيها، وليس بشكلها ولا بنظامها. فقد تتخد الدولة الدينية جميع الأشكال المعروفة (البسيطة والاتحادية، الكاملة والناقصة السيادة)، وقد يكون نظامها السياسي في صورة ملكية استبدادية أوليغارشية مطلقة كما في السعودية أو جمهورية “ديمقراطية” رئاسية كما في إيران. لهذه الأسباب كلها تبنيت صيغة “طبيعة الدولة” للتمييز بين الدولة المدنية القائمة على الإرادة الشعبية والقانون الوضعي وبين الدولة الدينية التيوقراطية التي تستمد شرعيتها من تعاليم الدين وأحكامه. والمهم في هذا المقام هو بيان ما أقصده من مصطلح طبيعة الدولة حتي لا تلتبس المفاهيم على القارئ. وفي الفقرات الموالية سأحاول تحليل بنية الدولة المغربية لبيان طبيعتها في ضوء الاعتبارات التي أوردتها في مقدمة هذا الحديث. تنفرد المملكة المغربية عن غيرها من الدول العربية ذات الأنظمة الدستورية الحديثة بدستور يتضمن مقتضيات تؤكد على الطابع الإسلامي للمملكة المغربية، ويكرس مؤسسات دينية تقليدية من قبيل إمارة المؤمنين والمجلس العلمي الأعلى. وهو وضع يثير تساؤلا مشروعا حول طبيعة الدولة المغربية إن كانت دولة مدنية أم دينية. ماذا يقول الدستور؟ –“المملكة المغربية دولة إسلامية (تصدير)؛ – الهوية المغربية تتميز بتبوؤ الدين الإسلامي مكان الصدارة فيها (تصدير) ؛ – تستند الأمة في حياتها العامة على ثوابت جامعة تتمثل في الدين الإسلامي السمح…(الفصل1)؛ – الإسلام دين الدولة..(الفصل3) – شعار المملكة: إلله الوطن الملك (الفصل 4)؛ –لا يجوز أن يكون هدف الأحزاب المساس بالدين الإسلامي… (الفصل 7)؛ – الملك أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين…(الفصل 41) – يرأس الملك، أمير المومنين، المجلس العلمي الأعلى…(الفصل 41)؛ – يمارس الملك الصلاحيات الدينية المتعلقة بإمارة المؤمنين…بواسطة ظهائر (الفصل 41.)”. إن القاريء غير المتمكن، وهو يطالع هذا الكم من الفصول التي تُبوّئ الإسلام منزلة متميزة في الدستور المغربي، لن يتردد في اعتبار المغرب دولة دينية بامتياز. وهو حكم فيه كثير من الإحراج للذين لا يتوانون عن تصنيف النظام السياسي المغربي ضمن الأنظمة الديمقراطية الحداثية. وقبل الخوض في تحليل بنية الدولة المغربية لبيان رأيي في طبيعتها، لا بد من التمييز بين الدولة الدينية والدولة المدنية. والدولة المدنية المقصودة هنا هي تلك السائدة في معظم الدول اليمقراطية، ويعبر عنها ب Etat séculier من sécularisme وتعني الدنيوية، وهو المذهب الذي يفصل بين الدين والسياسة في شؤون الحكم وإدارة الدولة. وهو يختلف من حيث المنشأ عن العلمانية أو اللائيكية التي تنفرد بها فرنسا والتي كانت نتاج مخاض طويل ترجع بدايته إلى الثورة الفرنسية. في الدولة الدينية تدار شؤون البلاد والعباد استنادا على تعاليم الدين وأحكام الشريعة (بالنسبة المسلمين)، وتكون فيها السيادة لله رب العالمين، سيد الأولين والآخرين، خالق السماوات والأرض، مصدر كل سلطة في الأرض وفي السماوات. وليس للإنسان في الدولة الدينية من حقوق إلا ما شرعه الله، فلا حق يعلو فوق حقوق الله التى ينفذها من ولاه الله أمر عباده. وفي الدولة المدنية الديمقراطية يساس الناس بناء على أحكام الدستور والقوانين الوضعية الصادرة عن مؤسسات تمثيلية منبثقة عن الشعب ومنتخبة بشكل حر ونزيه. وتكون فيها السيادة للشعب باعتباره مصدر كل السلطات والمشرع لجميع الحقوق والواجبات. والدولة الديمقراطية بطبيعتها مدنية، والدولة المدنية ليست بالضرورة ديمقراطية. فأساس التمييز بين الدولة الدينية والدولة المدنية هو مدى اعتماد قواعد ومبادئ وأحكام الدين في تدبير شؤون المواطنين . فمتى كانت أصول الحكم وقواعده (الدستور، القوانين…). من أصل بشري غير رباني كانت الدولة مدنية بصرف النظر عن طابعها الديمقراطي من عدمه. فقد تكون الدولة المدنية استبدادية يسودها الحكم المطلق ولا تراعى فيها أبسط حقوق الإنسان كما كان الشأن في ألمانيا وإيطاليا وإسپانيا في القرن الماضي. فهي تقوم على قواعد وقوانين وضعية مدنية لكنها لا تعترف بالحقوق والحرىات الأساسية لمواطنيها، وإن كان حكامها يزعمون دائما أنهم يجسدون الإرادة الشعبية وغايتهم القصوى هي إسعاد الشعب وإحقاق الحق ومحاربة جميع أشكال الظلم والقهر والفساد. وفي المقابل، ليست الدولة الدينية دائما استبدادية مطلقة، فقد تتوفر على دستور وقوانين تضمن الحريات والحقوق الديمقراطية، لكن في الحدود التي تسمح بها تعاليم الدين وأحكام الشريعة، وكل مخالفة لهذه الأخيرة مرفوضة لأن الأصل في الدولة الدينية هو الحكم بما أنزل الله وليس بما سنه البشر من قوانين وأنظمة. فدولة إيران، على سبيل المثال، تتوفر على دستور يشتمل على ترسانة من الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية شبيهة بمثيلاتها في الدول الديمقراطية، إلا أن ممارستها تبقى مشروطة باحترام تعاليم الإسلام ومراعاة أحكام الشريعة الإسلامية. وحتي رئيس الجمهورية، المنتخب بالإقتراع العام المباشر، يوجد في مرتبة دنيا من مرتبة الإمام المرشد الأسمى، الذى يعتبر خليفة الله فى أرضه، الساهر الأمين على تطبيق حكم الله تعالى. وكمثال على الدولة الدينية في التاريخ نجد جميع الدول التي تعاقبت على العالم الإسلامي، شرقه وغربه، حتى نهاية الخلافة العثمانية سنة 1921م واستعمار المغرب سنة 1912م. وفي أوروپا كانت الدولة الدينية سائدة في العصور الوسطى حيث كان الملوك يحكمون بمقتضى الحق الإلهي ويُنصّبون بمباركة من الكنيسة الكاثوليكية. واستمر هذا الوضع الى حين اندلاع الثورة الفرنسية سنة 1789م حيث بدأ نجم الدولة الدينية في الأفول تدريجيا انطلاقا من فرنسا ليعم كافة القارة الأوروپية. بعد بيان الفوارق الجوهرية بين الدولة المدنية والدولة الدينية، أعود إلى المقتضيات ذات الطابع الديني في الدستور المغربي فنجد أن المسكوت عنه أكثر إفصاحا عن موقف واضعي الدستور من مدنية الدولة المغربية. وأقصد حرية المعتقد التي غابت في النص الدستوري. وحتى في الحالات التي ينص فيها على التزام المغرب بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا، فإنه سرعان ما يبادر إلى تقييد هذه الحقوق الكونية بضرورة مراعاتها للدين الإسلامي المعبر عنه بالهوية أو بالثوابت الراسخة. ومثال ذلك ما جاء في الفصل 19 من الدستور الذي ينص على: ” يتمتع الرجل والمرأة على قدم المساواة بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية والبيئية الواردة في هذا الباب (الثاني) من الدستور وفي مقتضياته الأخرى وكذا في الاتفاقيات والمواثيق الدولية، كما صادق عليها المغرب، وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها”. وكلنا نعلم أن ثوابت المملكة يتصدرها الدين الإسلامي، كما أن العديد من أحكام الدستور وقوانين البلاد مستمدة من الشريعة الإسلامية. وهذا ما يفسر كون بعض الأحكام القانونية المستندة على الشريعة الإسلامية نافذة في المغرب رغم تعارضها مع الحقوق والحريات الأساسية المنصوص عليها في الفصل 19 من الدستور. وأقصد هنا الإخلال بمبدإ المساواة بين الجنسين في مادة الإرث. والمثير للانتباه في هذا الباب أن دساتير الجمهوريات العربية “الحداثية”، مثل الجزائروتونس ومصر والعراق، تنص كلها صراحة على الإسلام كدين للدولة، ولكنها تأتي بعد ذلك لتؤكد صراحة أيضا على حرية المعتقد والضمير والممارسات الدينية. فما معني تنصيص دساتير هذه الدول على الإسلام كدين للدولة والاعتراف في نفس الوقت بحرية الاعتقاد والتدين؟ هل هو مجرد تسجيل لواقع شعوبها المتمسكة بالإسلام كهوية و كعقيدة، فيكون بذلك هذا التنصيص من باب تحصيل الحاصل؟ من المؤكد أن اعتبار الإسلام دينا للدولة هو الذي يخول لأنظمة هذه الدول صلاحية التدخل في المجال الديني، ويبرر الإنفاق العمومي على المرافق الدينية، وتخصيص ميزانيات للوزارات المكلفة بالشؤون الدينية. لكن في المقابل تكفل هذه الدول حرية العقيدة ولا تحاكم مواطنيها بسبب معتقداتهم الدينية. ويعتبر المغرب من هذه الناحية متخلفا عن الجزائروتونس ومصر والعراق في مجال الحرية الدينية. لكن تعميق البحث سيكشف لنا أن الاعتراف بحرية المعتقد في دساتير بعض هذه الدول، إنما جاء مراعاة لحقوق فئات عريضة من شعوبها التي تدين بغير الإسلام، كما هو الحال في مصر والعراق. فبالرغم من التسامح الظاهر بإقرار حرية المعتقد تظل الشريعة الإسلامية مصدرا رئيسيا للتشريع في دساتير هاتين الدولتين. فاعتبار الشريعة مصدرا للتشريع يعد في نظري إخلالا جوهريا بمبدإ مدنية الدولة لأنه يفسح المجال واسعا أمام إمكانية سن قوانين مستمدة في جوهرها من الشريعة بمباركة من الدستور ذاته، مكرسا بذلك دينية الدولة. ولا يشفع في هذا الأمر الاعتراف بحرية المعتقد التي تبدو مجرد مبدأ للاستهلاك وترضية غير المسلمين، أكثر منه التزام مبدئي واقتناع صادق بمدنية الدولة. أما الجزائر فقد برهن الواقع على انعدام الحرية الدينية فيها رغم تنصيص الدستور عليها. وتبقى تونس الدولة الوحيدة في العالم العربي التي تعترف بجدية وإخلاص بحرية الضمير والاعتقاد. لكن على العكس من ذلك يمكن اعتبار المغرب متقدما دستوريا على دولتي مصر والعراق في مجال تكريس الطابع المدني للدولة، إذ اكتفى دستوره بالإحالة على الإسلام كأحد ثوابت الأمة على غرار الوحدة الوطنية والملكية الدستورية والنظام الديمقراطي، ولم يجعل الشريعة مصدرا من مصادر التشريع. ومع ذلك يبقى التطبيق ومدى تشبع سلطات الدولة، باختلاف صلاحياتها (تنفيذية وتشريعية وقضائية) وعلى جميع مستوياتها (مركزيا وجهويا وإقليميا ومحليا)، بمبادئ ومقومات الدولة المدنية، هما المقياس والمحك للحكم على النوايا الحقيقية للسلطات. ومهما قلنا وأمعنا في استعراض النصوص الدستورية والقانونية فإن العبرة تبقى في نهاية المطاف للواقع المعيش ولِمدى التزام السلطات فعلا باحترام الحريات الشخصية المتاحة لمواطنيها، وعدم اضطهادهم بسبب أفكارهم ومعتقداتهم وممارساتهم الدينية. وحتى تكون الصورة أكثر وضوحا، لِننزلْ إلى أرض الواقع لنعاين كيف يعيش المواطنون المغاربة حياتهم اليومية، وهل هناك قيود على حرياتهم الشخصية وعلى العلاقات بين الجنسين في الشارع والعمل والإدارة والمدرسة، لِنشاهدْ كيف يتصرف المغاربة والمغربيات في مأكلهم ومشربهم وملبسهم، لِنُلقِ نظرة على الصحف المعروضة في الأكشاك، و لنتابِعْ برامج القنوات التلڤزية المغربية. هل نلمس في مجال من هذه المجالات ما يوحي بتقييد في الحريات الشخصية أو تضييق على ممارستها؟ إن الملاحظ للمجتمع المغربي يسجل في الواقع تعايش عالمين اثنين جنبا إلى جنب: مجتمع منفتح على الحداثة والأخذ بأساليب الحياة الغربية في كثير من مظاهرها دون انسلاخ عن هويته أو تفريط في أصالته، ومجتمع محافظ متمسك بتقاليده وقيمه الأصلية التي يخلطها في بعض الأحيان بالدين. هذه هي النواة الصلبة للمجتمع المغربي الذي لا يختلف في الواقع كثيرا عن المجتمعات العربية الأخرى التي لا يسود فيها الحكم التيوقراطي. وعلى أقصى طرفي هذه النواة الصلبة نجد فئتين أخريين متطرفتين، الواحدة موغلة في الحداثة إلى حد الابتذال والاستلاب والتنكر لأصولها وهويتها، والأخرى مغالية في التشدد الديني إلى حد تكفير المجتمع وإهدار دم المواطنين الذين يختلفون معها في الرأي. ومن حسن حظ البلاد أن الفئتين معا لا تمثلان نسبة جديرة بالاعتبار في الوقت الراهن على الأقل. إن هذا التنوع الذي يزخر به المجتمع المغربي في طريقة التعامل مع الدين والسلوك الاجتماعي الناتج عن ذلك، إنما يعكس مدى الحرية التي يتمتع بها المغاربة في حياتهم التي يعيشونها حسب ما يرتضونه لأنفسهم ولأبنائهم دون تضييق ولا تقييد، فى انسجام تام مع أفكارهم وقناعاتهم الفكرية والدينية والسياسية. ولا حدود لهذه الحرية إلا ما وضعته قوانين المملكة واقتضته متطلبات المواطنة الحقة. وهذه لعمري إحدى السمات البارزة للدولة المدنية. هذا على مستوى الأفراد والمجتمع، فماذا على مستوى المؤسسة الحاكمة؟ هل تنتهج السلطات سياسة دينية محافظة تتصادم مع مظاهر التحرر التي تنتشر في المجتمع المغربي؟ هل السلطات الحاكمة تعمل على تنزيل الدستور بشكل ينتقص أو يخل بالحقوق والحريات المتعارف عليها في الدول الديمقراطية والمنصوص عليها في المواثيق الدولية؟ هل رأينا مواطنين يكرهون بطريقة أو بأخرى على أداء الشعائر الدينية؟ وهل وقفنا على تدخل السلطات لفرض طريقة معينة في لباس المرأة أو الرجل، أو منعهم من الاختلاط والتعامل فيما بينهم على غرار ما يجري في إيران والسعودية مثلا؟ إن ما نلاحظه بين الفينة والأخرى من اعتداء على المواطنين والمواطنات، بدعوى عدم احترام الواجبات الدينية في السلوك أو الملبس، يشكل في الواقع حالات فردية معزولة، وهي استثناء يعبر عن مواقف تلك الجهات المحافظة أو المتعصبة الرافضة أصلا لكل الحريات الديمقراطية وعلى رأسها الحرية الشخصية. ومع ذلك فإنه لا ينبغي إغفال دور المجتمع ووزنه في التأثير على موقف السلطات: فقد تضظر هذه الأخيرة في كثير من الأحيان، وبالرغم عن حسن إرادتها، إلى تبني مواقف غير منسجمة مع مقومات الدولة المدنية. فنجدها تستسلم لراي “الشارع” الذي عادة ما ينساق وراء بعض الافكار المناهضة للحداثة والتي تروج لها جهات ترفض الانفتاح على العصر. وللذين يرون في خضوع مادة الأحوال الشخصية والمواريث لأحكام الشريعة الإسلامية إخلال بمقومات الدولة المدنية أقول إن الشريعة في هذه المادة أصبحت في حكم القانون الوضعي. ذلك أن أغلب مقتضياتها عدلت وأصبحت مراعية إلى حد كبير لحقوق المرأة. وبالرغم من تعارض أحكام الشريعة مع مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في مواضيع الزواج والطلاق والإرث، فإنه لا يمكن اعتبار هذا التعارض وحده كافيا للتأثير بشكل جوهري على الطابع المدني للدولة المغربية، وإنما يمثل إحدى الخاصيات التي تنفرد بها المجتمعات الإسلامية بصفة عامة (استثناء تركياوتونس) والتي تشكل أحد المكونات البنيوية لتراثها وثقافتها وهويتها. والتغيير المنشود في هذا الباب يطرح إشكالية ولوج هذه المجتمعات إلى الحداثة التي يبدو أنها ما زالت حلما بعيد التحقق، في ظل تنامي التيارات السلفية ووصول التنظيمات الدينية المحافظة إلى مراكز القرار. والخلاصة أن الحكم على دولة ما إذا كانت مدنية أم دينية لا يمكن تأسيسه فقط على الدستور والقوانين، بل ينبغى الرجوع فيه أيضا إلى أنماط الحياة المتبعة في المجتمع وإلى مساحات الحقوق والحريات المتاحة للمواطنين وكذا إلى مواقف السلطات الحاكمة من الممارسة الفعلية من طرف مواطنيها لهذ الحريات والحقوق. وينبغي التأكيد أيضا على أن شيوع مظاهر التدين في أوساط شعب من الشعوب يعتبر مؤشرا على حرية هذا الشعب في ممارسة طقوسه الدينية ما دام، في المقابل، ليس هناك ما يمنع فئات أخرى من المجتمع من التمتع بحرياتها الشخصية في عدم التقيد بالواجبات الدينية دون أي نوع من المضايقة، إلا ما حرمته القوانين واقتضاه النظام العام وسمحت به روح المواطنة. وفي ختام هذا الحديث أرجو أن يكون القارئ قد كون فكرة عن طبيعة الدولة المغربية في علاقتها مع الدين. وله أن يصدر حكمه حسب أفكاره وتوجهاته وقناعاته. والحقيقة أنه من المجحف القول إن المغرب دولة دينية لمجرد احتواء الدستور المغربي على عدد من المبادئ والمرجعيات ذات الصبغة الدينية. فالدستور، في كل ما أورده من نصوص ومقتضيات مرتبطة بالدين، لم يفعل سوى التصريح بواقع قائم منذ قرون. وإغفال هذا الواقع ما كان ليثني المغاربة عن التشبث بهويتهم الإسلامية والتعلق بتاريخهم الذي هو، في معظم أطواره وأحداثه، عبارة عن صراع مستمر بسبب الإسلام ومن أجل الإسلام. فالطابع المدني للدولة المغربية، في رأيي، بارز بشكل جلي في كل المجالات التي أوردتها في الفقرات السابقة، ولا يشوبه في نظري إلا سكوت الدستور عن حرية الضمير والاعتقاد. المغرب بلد مسلم بالدستور وبغير الدستور، والفصول التي جاءت في مستهل هذا الحديث تنطوي على دلالة رمزية حيوية بالنسبة للشعب المغربي، بدونها ما كان للدستور أن يعكس شخصية هذا الشعب في جميع أبعادها الروحية والتاريخية والثقافية. الرباط، نونبر 2018 *كاتب و مفكر .. عامل الناظور السابق